أثارت مسألة أصل الدروز فضول العديد من الباحثين الذين أرادوا التعرف على الأصول العرقية التي ينحدر منها الدروز، ولقد توخى بعض الباحثين الدقة في طرحهم وتمتعوا بالمصداقية في تناولهم لهذا الموضوع، فتوصلوا إلى حقائق علمية ترتكز على أدلة وبراهين من الصعب إنكارها، بينما قام البعض الآخر بأبحاث نابعة من دوافع سياسية لا تمت للبحث العلمي بصلة، والهدف من هذه الأبحاث هو التوصل إلى نتائج معروفة مسبقًا، والغرض منها نفي عروبة الدروز ونزعهم من سياقهم التاريخي والحضاري وإفراغهم من انتمائهم القومي وسلخهم عن سائر أبناء شعبهم وأمتهم.
وفي هذا السياق، نشر موقع إسرائيلي ناطق بالعربية بحثًا وراثيًا أجري على المجتمع الدرزي في إسرائيل، قام به باحث إسرائيلي يدعى البروفيسور عوز ألموج من جامعة حيفا، ويدعي ألموج في بحثه أن "أصل الدروز ليس عربيًا"، ويقول في معرض حديثه عن أصل الدروز: "من جميع التخمينات التي وُضعت حتى اليوم حول أصلهم، ما يبدو لي الأكثر منطقية هو المنطقة بين أوروبا وآسيا (بين بحر قزوين والبحر الأسود) التي تُدعى القوقاز".
لقد علمت أن هذا البحث انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي وخلق بلبلة لدى البعض، فرأيت لزامًا علي أن أتصدى لهذا الطرح الخطير المنافي للحقيقة العلمية والمليء بالأخطاء التاريخية الفادحة، وأعتقد أنه تقف خلف هذا البحث نوايا مبيتة ولم يأتِ بمحض الصدفة، بل نُشر لغاية سياسية خبيثة ترمي إلى قطع الدروز عن جذورهم العربية الأصيلة وتعميق أزمة الهوية التي يعاني منها بعضهم.
سأعتمد في بحثي لهذا الموضوع على كتابين قيمين يتميزان بالدقة العلمية والأمانة التاريخية، الكتاب الأول هو "تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي"، تأليف الدكتور عباس أبو صالح بالاشتراك مع الدكتور سامي مكارم، أما الكتاب الثاني فهو "الدروز في التاريخ"، تأليف الدكتورة نجلاء أبو عز الدين.
يقول أبو صالح ومكارم في مستهل كتابهما: "يستدل من جميع ما نشر من بحوث تاريخية علمية حول الذين يؤلفون اليوم سكان بلاد الشام أن الموحدين الدروز لا يختلفون من حيث أصولهم العرقية عن هؤلاء السكان، لذلك فإن تاريخ الموحدين الدروز يشكل في الواقع جزءًا أصيلا من تاريخ بلاد الشام".
ويضيفان: "إننا نرى بأن عروبة الدروز لا يصح فصلها عن عروبة السواد الأعظم من سكان بلاد الشام. فقبل أن يصبح الدروز طائفة دينية مستقلة ذات مذهب إسلامي خاص بهم في القرن الحادي عشر للميلاد/ الخامس للهجرة، كان معظمهم على الأقل يؤلفون جزءًا من سكان بلاد الشام عربًا كانوا أم مستعربين".
وعن أصل الدروز يقولان: "يستنتج من الأخبار المنقولة عن أعيان العائلات الدرزية الكبرى بأن أسلاف الدروز يرجعون في غالبيتهم من حيث النسب إلى اثنتي عشرة قبيلة عربية كانت تقيم في منطقة معرة النعمان منذ أوائل الفتح العربي الإسلامي وانتقلت تدريجيًا إلى لبنان".
ويتابعان: "نحن بدورنا نرى في صحة نسب عدد من العائلات الدرزية العريقة إلى قبائل عربية معروفة استقرت في بلاد الشام قبل الإسلام وبعده دليلا ثابتًا على عروبتهم"، ويشيران إلى أن "معظم العائلات الدرزية التي مثلت دورًا لا يستهان به في تاريخ الدروز السياسي تنتسب بدورها إلى أصل عربي"، ويؤكدان على أن "معظم الباحثين يرجعون الموحدين الدروز إلى أصل عربي ومن هؤلاء هوجارت وبل اللذين اعتبرا العنصر العربي هو الغالب بين الدروز".
ويلفت أبو صالح ومكارم إلى أن "الدروز يعتبرون أنفسهم عريقين في العروبة ويستندون في ذلك إلى تواريخ مخطوطة لنسب عدد كبير من العائلات الدرزية وروايات شفوية متواترة على ألسنتهم خلفًا عن سلف. كما أن نقاء مخارج حروف لغتهم العربية المحكية فضلا عن أسماء أسلافهم العربية وعاداتهم وتقاليدهم مما يدعم الحجة في صحة نسبهم العربي هذا".
ويخلصان في بحثهما عن أصل الدروز إلى النتيجة التالية: "لم يأتِ النصف الثاني من القرن العاشر للميلاد حتى كانت المناطق الوسطى من لبنان والتي انتشرت فيها دعوة التوحيد الدرزية فيما بعد قد استقرت فيها عدة عشائر عربية منذ فترة طويلة وكانت لها الزعامة على السكان الأصليين. وتعرضت هذه كغيرها من مناطق بلاد الشام لحركة الاستعراب والاختلاط بالقادمين الجدد بحيث أصبح طابعها عربيًا إسلاميًا قبيل قيام دعوة التوحيد (الدرزية). وهذا الخليط من السكان شكل ما يمكن أن نسميه أسلاف الموحدين الدروز".
ولا تختلف الدكتورة أبو عز الدين عن سابقيها في النتائج التي توصلت إليها، حيث تقول في هذا الإطار: "ينتمي الدروز إلى أصول عربية، وقد استوطن العرب البلاد السورية في عصور سابقة على الفتح العربي"، وتضيف: "أكثر القبائل التي استوطنت بلاد الشام قبل الإسلام كانت من عرب الجنوب. وإلى هذه القبائل اليمنية ينتسب الدروز"، وتشدد على أن "الاعتقاد السائد بين الدروز والمتوارث جيلا بعد جيل هو أصلهم العربي الذي يرجع إلى قبائل سكنت سورية، منها قبل الإسلام ومنها جاء مع الفتح".
هذان البحثان الرصينان لا يتركان مجالا للشك حول عروبة الدروز، ويأتيان بأدلة علمية وتاريخية دامغة تفند مزاعم ألموج بشأن "الأصل القوقازي" للدروز، ويثبتان بأن ما جاء به ليس إلا خزعبلات من نسج خياله لا أساس لها من الصحة، وأعتقد أن هذا البحث العجيب الذي لا يقبله العقل السليم يشكل مادة دسمة للروائيين المعنيين بكتابة قصة خرافية حول أصل الدروز الوهمي.
على كل حال، السواد الأعظم من الدروز يعرفون أصلهم جيدًا وليسوا بحاجة لمن يعرفهم به، وهذا لا ينفي وجود فئة من الدروز التي تنكرت لأصلها العربي وأخذت تبحث عن أصل آخر فلم تجده، وهؤلاء يعيشون في حالة من الضياع الدائم ويعانون من أزمة هوية مستعصية تحتاج إلى علاج جذري لكي يعيدوا اكتشاف هويتهم الحقيقية.
أتمنى أن يشكل هذا البحث صحوة ضمير لدى بعض الدروز الذين تعرضوا لغسيل دماغ على نطاق واسع، ووقعوا ضحية لسياسة التضليل الممنهج التي تتبعها المؤسسة الإسرائيلية بحق الطائفة الدرزية، فصدقوا الفرية التي ابتدعتها واقتنعوا بأنهم ليسوا عربًا، مما جعلهم يعيشون في بلبلة لا نهاية لها نتيجة حالة الاغتراب عن انتمائهم القومي التي تسيطر عليهم.