لعل معظمنا – في مجتمعاتنا العربية والاسلامية - يشعر انه يعيش في مأزق وفي ورطة إزاء حريته، إن في حياته الاجتماعية التي يتحكم فيها لا وعي جمعي محافظ شكلاً منحل جوهراً ، وإن في حياته الاعتقادية الدينية والمذهبية التي هي ايضًا بل هي خصوصًا خاضعة لذاك العقل اللاعقلي او اللاواقعي ..
والعقل عندما يتعارض بما يحمل من مفاهيم مع الواقع يغدو لا عقلي ، وهو عقلنا الديني والاجتماعي على حد سواء – عموماً - .. ومشكلة المثقف – الذي ينبغي ان يكون استثناء - تكمن في انه لا يستطيع إعمال عقله الا ضمن العرف الاجتماعي وضمن النصوص الدينية المقدسة ، وقد مُنح العرف والتقليد في الفكر والسلوك قداسةً من قبل الأغلبية بنخبها المختلفة ، كما مُنحت النصوص الدينية قداسة وعصمة من قبل تلك النخب نفسها ، وهنا المشكلة اذ ماذا يفيد التمليح اذا كان الملح نفسه فاسداً ،بمعنى ماذا تفيد النُخب الحاملة للشهادات العلمية ، ان كانت غير واعية لإشكالياتها ، او غير حرة في تفكيرها وتعبيرها ومحكومة بالماضي المفاهيمي وبالعقل الجمعي نفسه ..
خطورة المواجهة :
ان خطورة المواجهة العقلية لهذا الواقع بالنسبة للفرد المثقف تتمثل في انه يقع بين وضعين 1 – إما ان يختار التمرد ويخرج على التقليد سلوكاً وفهماً ، فيلقى النفي والاقصاء ، وهذا وضع لا شك صعب 2 - وإما ان يسكت ويضع رأسه بين الرؤوس على حساب الحقيقة، وهو وضع أسوأ من سابقه.. من هنا اقول ان على كل من باتوا يدركون هذا الوضع اللاطبيعي ، ان يقيموا منتديات ومراكز للحوار الراقي حول هذا الوضع ، ولا بد من ان يأتي بثمار ايجابية ..
وفي محاولة لفهم انفسنا وفهم اوضاعنا في الواقع نسأل من هي النُخَب الموجودة عموماً ..؟
النُخَب الموجودة إما دينية اعتقادية صرف اي – مشايخ فقهاء ،عقال دون العقل الحقيقي او الفاعل القابل للتغيير والتأثير - واما نُخب علمانية المظهر دينية التفكير – "جهال" برائحة العقل دون العقل ايضاً –
..لا عقلية المتدينين الايمانيين تتمثل في قبولهم للتناقضات العقيدية والنصية دون شرط ، هو توجه تسليمي اتكالي تابعي لا يقبل نقاش النصوص الدينية وان حفلت بالخرافة والتناقض .. ولا عقلية العلميين تتمثل في سكوتهم عن تلك المتناقضات ، في قبولهم لهذا الواقع ، في تبريرهم له ضمن الفهم العام البائس نفسه ، وبدل ان يخترقوا هذا الواقع بعقولهم النقدية العلمية ويؤثروا فيه ايجابياً ، تراهم يتهمون انفسهم بالتقصير ازاء المشايخ ويشعرن بالدونية تجاههم وينافقونهم تحت عنوان " احترام الزي الديني" .. يبرز هذا السلوك لدى المتعلمين او ، العلميين، العلمانيين " الجهال " في مختلف المناسبات الجامعة بينهم وبين رجال الدين ..
لن احاول هنا ان اضرب امثلة للعقل الحقيقي الواقعي، الذي هو بالضرورة عقل منطقي علمي عرفاني جريء ، لأن مثل تلك الأمثلة تحتاج الى عرض نصوص دينية من اجل الكشف عن تناقضاتها وعن تعارضها مع المنطق العقلي على المستوى العلمي والواقعي ، وتعارضها مع القيم الانسانية على المستوى الأخلاقي .. لكن لا بد من القيام بذلك في منتدياتنا الخاصة مع بعض المنفتحين، للحيلولة دون الوقوع في فوضى التعبير ، وفي مماحكات غير مجدية ، وفي سوء فهم وعراك ..
وبالمناسبة هنا اريد ان انوه الى فشل المحاولة للجمع بين المفاهيم الدينية التقليدية وبين التصوف او العرفان الذي يعيش تحت سقف الدينيين ولا يتجرأ للخروج والاستقلال عن قداسة مفاهيمهم الاعتقادية الغيبية ، وكان لنا امثلة مع ابن عربي وغيره ممن خلطوا بين العرفان الخالص وبين اساطير دينية في محاولة للرقي بالدين على حساب العلم وليس بالعلم – ان أمكن - فمشكلة هذا الجمع وهذا التوفيق، انه يلغي العقل الواقعي العلمي ايضاً ،الذي ينقصنا وعليه العمدة في الخروج من الماضي المكرر والمتكرر عبثيا وسلبيا ، المبقي على اسس صراعاتنا المذهبية ،فبالحب وحده لا يمكن ان نزيل الظلام المستبد بمجتمعاتنا ،ولا بد من العقل الفاعل في حياتنا الثقافية والاجتماعية .. وهنا اريد التأكيد على ان هذا الطرح لا يقصد على الاطلاق نفي وجود روح سامٍ في الكون ووراء الاشياء والمسالك ، بل هو يتبنى هذا الروح كوعي تجاوزي في صميم الانسان، في فكره وحواسه وضميره .