كثُرت الفيديوهات المنشورة على الانترنت التي تعرض افلامًا "وثائقية " عن الشيعة وعن المذاهب المتفرعة عنها المرتبطة بأصولها، كالإسماعيلية واليزيدية والإثناعشرية وغيرها ، والمستقلة عنها كالنصيرية العلوية والأحمدية والبهائية والدرزية ، على خلفية الصراعات المذهبية الدائرة في العراق وسوريا واليمن .. ومعظم هذه الفيديوهات هي محاكمات من قبل شخصيات سنية لهذه المذاهب والاديان تنتهي جميعًا بتكفيرها وتفسيقها وتشريكها وتمريقها وما الى ذلك من تلك الأنغام العتيقة التي الفها ابن تيمية وابن قيم الجوزية والغزالي وابن الصلاح وسواهم من (علماء) منذ القرن الثالث والرابع الهجريين .. والى اليوم يقوم اتباع ورثة مواصلين لهؤلاء ومبتكرين على نفس النهج والمنطق ذاتهما .. هي محاكمات تفتيش كالتي شهدها عصر الظلام الوسيط في اروبا ، يجر التفتيش فيها عن ضمائر وقلوب الآخرين والمختلفين في فهمهم وفي سبرهم للكتابات الدينية وغيرها ، وان لم يحاكموا الآخرين الا نظرياً ومعنوياً ، لكن ما يقولوه في الطوائف والاديان الأخرى يشجع المتطرفين لينضموا الى حركات الأسلمة الظلامية الاجرامية كداعش وسواها ..
وبهذا التوجه السلبي يستمر التخلف والتحجر والتفتيت والتمزيق للعرب والمسلمين من داخلهم وبأنيابهم ومخالبهم وسمومهم هم انفسهم ، كما جاءت وكما كانت ،قبل الصهيونية والماسونية والإمبريالية ..
وفي الواقع لي موقف فكري من جميع الديانات التي تسمى سماوية وما تفرع عنها من مذاهب ، وقد وضعتها في ميزان واحد - لا من زاوية القيمة المعرفية والروحية والفلسفية والعلمية - بل من ناحية المعاداة والإقصاء والتكفير ، فلكل منها حصة تكفيرية ضد الأخرى ، غير ان الحصة الأكبر من الاقصاء والتكفير هي للجماعة الاكبر من المسلمين .. ولعل هذه الجماعة التي تتجاوز المليار نسمة اليوم – بدون الشيعة الذين يعدون قرابة مئتي مليون - هي البادية في خلق هذا السيل غير المنقطع من الصراعات والاحقاد بين كافة المسلمين ، اذ منها اول ما برز الاجبار والإخضاع بالقوة للمعتقد ، ومنها اول ما برز اصطلاح التكفير ومثله الزندقة وسوى ذلك ،ومنها من قام وحرق كتب ابن رشد وصلب الحلاج ، وحارب المختلفين وذبحهم وقمعهم ونفاهم وشردهم في الارض والى يومنا ..
هناك محطات تلفزيونية والكترونية ، تبث برامج لمحاكمة الاديان ، كبرنامج أسموه " محكمة العلماء " وهي هيأة مكونة من ثلاثة او اربعة اشخاص ومثلهم كثر في برامج اخرى ، تحجروا في منطقهم وتعصبوا لمذهبهم ضد جميع المذاهب الأخرى ، معتبرين مذهبهم ودينهم هما اساس الحقيقة المطلقة والأخيرة للكل ،حيث كل من لم يكن منها او خرج عنها فهو يا اما كافر او مارق او زنديق او ضال ، وهذا يعني ان ستة مليارات من البشر هم كذلك في نظر هؤلاء القضاة العور ..
لقد تناول هؤلاء عقائد فرق الشيعة المختلفة وغيرها بأسلوب ساخر مستهتر وسطحي وناقص في كثير من المعلومات والأوجه ، وفيه كثير من الافتراء والتلبيس والقذع والالصاق ، وكل كلامهم ترفع وتعال وتحريض لأهل السنة لاستباحة دم اتباع جميع الفرق الاخرى .. مثلاً عرضوا بضعة اسطر من رسائل حكمة التوحيد للدروز بصورة تعسفية مخجلة ،بينما رسائل الحكمة تحتوي مجتمعة على ما يقرب الالف صفحة ، وقالوا في الموحدين الدروز كلاماً بذيئاً رخيصاً بعيداً كل البعد عن واقعهم وحقيقتهم ، كلاماً لا ينم الا عن عقول مريضة وقلوب مظلمة لا يسمح لها اعوجاجها ونقصها من الاتصال بنور التوحيد .. فاذا كان الموحد في نظر هؤلاء هو من شهد ان لا اله الا الله ، فان التوحيد في نظر الموحد الدرزي هو من جرد نفسه لله الواحد الاحد ، ولا يكتفي بالكلام وزخرفه الذي حبروا هم به آلاف الكتب والمجلدات ..
اين أخطأ الموحدون الدروز في دينهم وفي شريعتهم ؟ هل لأنهم يعتبرون انفسهم مسلمين ولا يطبقون الإسلام السني بالتحديد ؟ وهل الاسلام هو فقط اسلام السنة التقليدية الحرفية ؟ لماذا لا يدرس علماء السنة دين التوحيد الدرزي بموضوعية وبتعمق في اسراره بعد ان حصلوا على رسائلهم؟ لماذا لا يدرسون تاريخ الموحدين الدروز ليعرفوا اسباب تفردهم وسرية عقيدتهم وسبب تسميتهم الحقيقية بالدروز ؟
هل اكتفاء الدرزي بزوجة واحدة مثلاً خطأ ديني شرعي ؟ هل يصبح مسلمًا مؤمناً موحداً اكثر لو تزوج من اربع نساء ؟!
ام ان نظرية الناسوت واللاهوت والتجليات الالهية التي يعتنقونها هي الخطأ ؟ ام عقيدة التقمص هي الكفر والخطأ ؟ هل عرفتم يا اهل السنة الله اكثر من الموحدين المستنيرين ؟! ان الله في عقيدتكم لا يتجلى لبشر بأي صورة وبأي شكل تنزيها له عن الصور والأشكال والمادة .. لكن اذا كانت الشمس التي تصل اشعتها المستنقعات الموبوءة والمياه العذبة على السواء، هل تتأثر بأي منهما؟ فكيف يتأثر خالق الشمس باتصاله بالصور والأشكال ؟
الا يوجب عدله ان يظهر لخلقه من حين الى آخر عبر العصور في صورة من سخر له كل شيء وهو الانسان ؟ فكيف اذن تقبلون ان يكلم الله موسى من شجرة او من جبل اصم ، ولا تقبلون ان يكلم عباده الصالحين من صورة انسان بعد ان سخر له كل ما في الأرض باعتباره افضلها ؟
اما عقيدة الدروز في التقمص يثبت العلم صحتها الى جانب الايمان والاعتقاد ، ومنطق العقيدة يقول ان عدل الله يوجب ان يعيش الانسان حياة اطول من حياة شجرة او سلحفاة مثلاً ، ليتمكن عبر ادواره من اصلاح نفسه وتطهيرها لتصلح لتوحيده ونيل سعادتها به ..ام ان خطأ الموحدين في اعتبارهم للجنة قطاف ثمار سلوك العرفان التي هي الاتصال بنور الرحمان ..؟ بينما الجحيم هو البعد والحرمان ..وهل يقبل العقل ان يخلق الله الناس وهو في سابق علمه مدرك ماذا سيفعلون ، يعد لهم ناراً يخلدون فيها ..؟
تفكروا في كل هذا وسواه تجدون عقيدة التوحيد الدرزي صحيحة وسليمة ومنطقية والهية ،وهي تقوم على التخيير لا على التبشير الذي يؤدي الى الترخيص ولا على الإجبار الذي يؤدي الى فساد الطوية قبل فساد السلوك ..