افتقادنا للشك المعرفي هو افتقادنا لحلقة اساسية في البنية المعرفية ، لعملية تكوين معرفة علمية .. لقد طغى التسليم والايمان والاعتقاد على عقولنا فاصبحنا نتعامل مع الواقع بعقلية غيبية ،أي غبية .. وعندما يصبح الشك ممنوعًا يلغي العقل نفسه ويقبل معلوماته بدون شرط ولا قيد ، بل يتوقف العقل عن ان يكون عقلاً اذ يفقد صفته الأساسية التي هي التمييز الذي يعتمد بدوره على الملاحظة والشك .. ومع الملاحظة والشك والتمييز سويةً يصبح لدينا عقلاً ،وبدون هذه الثلاثية – ملاحظة، شك ، تمييز - نحن بدون عقل ، بل اصحاب تسليم واعتقاد وتلق سلبي ،وما استخدامنا لكلمة عقل في حياتنا الا من باب التسليم والاعتقاد بأن العقل تابع للدين ملحق بالاعتقاد والتسليم ، وليس إماماً وهادياً ومرشداً ومتبوعاً .. فاذا اردنا ان نترجم هذا الوضع بمصطلحات بيلوجية ، العقل يمثل الرجولة والمبادرة والقوة والايجابية ، بينما التسليم للغيب يمثل الانوثة والضعف والتقبل السلبي .. طبعاً هي مقارنة مع الطبيعة في كل من الرجل والمرأة ، لا بين الرجل والمرأة (كبوتنتسيال ) انسانوي .. نحن اذن مجتمع انثوي مقارنة مع المجتمعات التي حررت عقولها من مفاهيم التسليم اللاشرطي ،ولكي نصبح رجال اي اصحاب عقول ، لا بد من تحرير وعينا من قيود التسليم والاعتقاد ، ومن ثم نسمح لعقولنا بالشك والصولان والجولان في كل ارجاء العقيدة الدينية وفي كل سموات الغيب ، وعلينا بتقبل النتائج العقلية وان اختلفت مئة وثمانون درجة مع معتقداتنا ..
وفي الحقيقة ان افتقادنا للشك المعرفي تاريخياً قطع بيننا وبين التفلسف والانتاج الفلسفي ، قطع بيننا وبين الابداع الفكري الخلاق ، اي عمليا قطع بيننا وبين حركة التاريخ ، ولذلك نحن في ذيل الأمم من التطور والتحضر والتقدم .. لقد ابتلع الغيب عقولنا بإغراءاته الأخروية المتأبدة والدنيوية السريعة الآنية على مدار قرون طويلة من التسليم والايمان والاعتقاد ، والى جانب المعتقدات الدينية برز معوضًا نفسياً عن ثقافة العقل،هي ثقافة الابراج والطالع وطقوس اخراج الجن والشياطين والمتنبئين للمستقبل ، نشاهد رواج هذه السخافة المبتذلة على شاشات التلفزيون في برامج يومية وخصوصا ً عند رأس كل سنة ميلادية ..
وما جعل الشك المعرفي العملي غير ممكناً في واقعنا ، هو طغيان التكفيريين من فقهاء الفاظ وعلماء حدود ، وكانت اداة قهر الشك ،قمع المفكرين والفلاسفة والمجددين والمجتهدين العقليين ،بالسجن والنفي والقتل ، فلم ( يمزط )عالِم ولا مفكر عبر تاريخ امتنا الا واتهم من قبل المأسسة الشرعية الدينية بالزندقة والكفر وما الى ذلك ، بل كذلك كل من حاد عن (الشبلونة) اللفظية للدين من الاتباع انفسهم ..
لقد فهم هؤلاء الشك المعرفي كوسواس شيطاني يؤدي الى الزندقة والكفر ، ومن هنا قال احدهم " من تمنطق تزندق " اي من استخدم المنطق ، وكأن المنطق نقيض للدين وللتدين ،ومن هنا بالذات ايضًا برزت مذاهب في الاسلام نفسه جعلت العقل بالذات كلمة الله الأولى ،ومبدأ الوجود الكلي كمذهب التوحيد الدرزي ،هذا رغم ان الدروز انفسهم يتوكلون على العقل باعتباره نبياً متشخصًا ،غير مدركين - على الغالب - انه جوهر وجودهم الذاتي .. والحق ان القرآن نفسه استخدم كلمة العقل وحث على التفكير والاجتهاد والاستنتاج " ويتفكرون في خلق السماوات والارض " وفي انفسكم افلا تعقلون " لكن الى جانب الدعوة للتفكير والاستنتاج يوجد الحث على التسليم اللاشرطي بالغيب كما في سورة البقرة " والذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة .." الخ .... وهذا من النقائض الدينية او الظاهرية للدين .. كذلك نجد حديث الإيمان والتسليم للغيب في كل من التوراة والانجيل غالب على حديث العقل فيظهر تمجيد الايمان على حساب التفكير .. وبالنتيجة هذه هي طبيعة المعتقدات الدينية ، ما يؤيد القول عند كثير من العرفاء والفلاسفة بأن للعامة دين يختلف عن دين العرفاء والفلاسفة ، ومفصل الاختلاف هو العقل لدى هؤلاء كمدخل وشرط للقبول والرفض مقابل التسليم والايمان غير المشروطان لدى أولئك .