البحث عن الحقيقة قبل التطبيل والتزمير كميل فياض
ويتمثل في بحث عن حقائق الوجود الخارجي الموضوعي ، وبحث في الوجود الداخلي الذاتي ..
وصدق كل من قال بأولوية البحث عن حقيقة الذات اولاً - داخل البيت ، او داخل الجسد ، داخل العقل الخ .. وان كان قصدنا هنا الماهية الاخيرة للوجود تحديداً ،فليس هنا هو بحث في قضية اجتماعية او في اشكالية تاريخية خاصة .. أقول صدق كل من قال بأولوية الكشف عن الذات ، اذ كيف سنعرف اذا ما كنا ننظر الى العالم من وراء اقنعة ونظارات داخلية خاصة او عامة ، ومن ثم ندرك الوجود الخارجي بما تحدده هذه الاقنعة والاستار والنظارات..! لا بد اذن من الكشف عن الذات وتعريته من كل ما يلبسه من تصورات وافكار، وفقط عندئذٍ يمكننا ان نكوِّن معرفة صادقة عن العالم .
لقد انشغل الفلاسفة ما قبل سقراط من الذين سموا بالفلاسفة الطبيعيين او فلاسفة الطبيعة ،بالبحث عن اصل الحياة ومنشأ الكون دون ان يعيروا اهتمامهم لحقيقة الوجود في الانسان ذاته ، وقد ارجع كل منهم اصل الوجود الى عنصر معين من عناصر الطبيعة الاربعة او الخمسة المعروفة ، حتى جاء سقراط وحول البحث من الخارج الى الداخل ، من الطبيعة الخارجية الى ذات الانسان .. " ولسان همَّه : اعرف نفسك " اولاً ..
وفي الواقع ان جميع العقائد والعلوم – القديمة والحديثة - تستند الى اقنعة وادوات ادراكية - إما داخلية او خارجية - وبذلك هي تحدثنا عن اقنعة وادوات او عن موضوعات وحقائق بصفات الاقنعة والادوات التي تم تحديدها وادراكها بها .. اقول هذا بلغة بسيطة وان كان ينسحب على كل ما استخدمه ادباء العلم ومنظريه بكل فروعه الحديثة والمعاصرة ، من لغة مركبة ومن تحليل مجهري كوني وذري وما فوق كوني وتحت ذري ..
لكن كيف يمكننا ان نتحقق يقينا باننا كشفنا عن الاقنعة الداخلية ، او اصلاً اذا ما كان هناك اقنعة داخلية تحجبنا عن حقيقة الذات وبالتالي عن حقيقة او عن حقائق العالم ؟ لا ادري ما العلة لهذا البحث او لهذا التوجه الا ان يكون مجرد شك حول معارفنا ومسلماتنا ، الشك فيما نحن عليه ،الشك في عقولنا وافكارنا وفي امكانياتنا المعرفية ، الشك فيما فرغنا من البحث فيه وتحول الى واقع صلب في حياتنا .. وصدور هذا الشك يأتي من عدم الرضى عن انفسنا وعن واقعنا ، ومن عدم الاكتفاء بالمستوى الذي حصَّلناه من تحقق ومن راحة بال وطمأنينة ..
في الواقع ان الغالبية الساحقة من الناس – بما فيهم مثقفين واصحاب شهادات ورجال دين – يعشون داخل اقنعتهم الداخلية التي منها يشتقون مظاهرهم التقليدية والمذهبية المختلفة بصورة لا واعية ، كذلك من تلك الاقنعة ينسجون ازياءهم وموضاتهم وافكارهم ومفاهيمهم ، هم شبه مخلدون في الارض ، في اعادة التاريخ بنفس صراعاته ، الا من آتاه الحظ منهم وكسر قشرة بيضة الشكل فيه الى اللاشكل وانطلق طالبا حريته من تلك الاقنعة والاقفاص ..
والسؤال : اذا ما كان الكلام والتوجيه والارشاد ممكناً ومفيداً في الموضوع .. هل هناك مبرر للكتابة والنشر في الموضوع ؟ تجربتي (الشخصية) تقول نعم هذا ممكن ،فهناك يقظين وهناك من هم جاهزون للتيقظ وان كانوا قلائل ، وشخصياً استفدت بالإشارة من مستنير واستيقظت من وراء كلماته ..
ولا زلت اذكره واشكره بقلبي .. هو المعلم كمال جنبلاط .. ولا زلت اذكر تلك الكلمات التي ايقظتني وعرَّتني وكشفت لي الحقيقة أوائل ثمانينات القرن العشرين " الوعي هو جوهر الوجود ، بل هو عين هذا الوجود والتي بها نعاين الشاهد والمشهود " واقر باني لا ازال طالبًا صغيرًا للحقيقة ما دمت في هذا العالم بين يقظة ونوم ..
ونسأل هنا ولا نزال في صلب الحديث عن البحث عن الحقيقة .. هل يمكننا تعريف الاقنعة الداخلية وتحديدها ، وهل يمكننا بالتالي وصف طريقة تجاوزها او كشفها ؟ في الواقع ان فهم هذه المسألة لا يقترن بالتعبير عنها مهما كان الوصف دقيقاً ووفياً للمعنى فانه لا يوصل اليه ، ولو كان هذا ممكنا ، لتحول العلم بحقيقة الوجود ممكنا للعقل العام، ومن ثم امكن نشره وتدريسه كسائر المواضيع التي تخضع للتعريف والوصف، وبما ان وجودنا في ذاته لا يدخل في اشكال التعبير المختلفة، فان للكلمة يبقى دور إشاري مجازي عَرَضي ليس اكثر ، والباقي على المتلقي ، على مدى حساسيته ورغبته ولطافته وتركيزه وصبره وتجرده واصغائه وتواضعه ..