ربما ان مسألة التحرر والانعتاق تؤخذ لدى المعظم على انها افكار طوبية ، مجرد مصطلحات ثقافية ، ادبية ، تراثية الخ ..
فالتحرر فُهمَ وعُمِلَ به على المستوى السياسي والاجتماعي والوطني ، اي في نطاق الحياة الزمانية المكانية الدنيوية .. وهذا يقول ان الوعي بالحياة مقتصر على المجالين الزمني والحسي الخالصين ، ولا يوجد وعي بالحياة لدى الناس عموماً ازاء وجودهم اللازمني واللاشكلي واللاحسي ..
ان النظر عند غالبية الناس الى حياة خارج الزمان والمكان العاديين المعروفين والمحسوسين بالغريزة وبالفطرة والقبلية، هو نظر الى عدم والى لا شيء ، هو نظر الى اوهام وخرافات دينية ميتافيزيقية فوقية فلسفية طوبية الخ الخ فحقيقة الحياة وحقيقة الوجود هي ما يشعرون به مباشرة ، ما يقع على جلودهم من حر وبرد وآلام وملذات ، وما يخترق مشاعرهم من خوف وأمان ، من رضى وسخط وسرور واحزان ومعاناة تأتي من الموضوعات المادية المحسوسة ومن العلاقات المختلفة بها ، هذا هو الواقع النهائي وفيه ومعه تكون الحياة ويكون الوجود ، وما نسميه وجود روحي وذات جوهرية هي مجرد افكار مثالية ، وما نسميه تحرر من العالم وانعتاق من قيوده وظلماته مجرد احلام فلاسفة وامنيات مؤمنين ساذجين..
نعم هكذا هو الوضع العام للوعي العام ..
في الحقيقة عندما ندخل في عمق من وعي الوجود فينا ونكشف من الداخل عن طبيعة العقل والافكار ، وعن ما وراء الصور الحسية والادراكات الطبيعية التي تشكل مرجعية للشعور بالوجود والحياة، ومرجعية للطموح وللنظر والقناعات والمشاريع والاحلام الارضية المختلفة لدى الناس، عندما ندخل كمستنيرين مستكشفين الى جوهر الوعي الذاتي ،ينبع يقين يحمل فيه عكس تلك المآخذ والتصورات التي تشكل القاعدة (النورماتيفيت) الطبيعية والواقعية لدى المعظم ، ومن ذلك الادراك العميق البسيط الذي يقف وراء العقل ووراء نشاطه الدائب ، يظهر العالم الحسي كحلم مستمر ومتواصل ، اي عكس ما تراه القاعدة العقلية الطبيعية السائدة .. وعملياً في لحظات كثيرة الجميع يشعرون بوهمية الوجود في العالم الحسي ، من حيث خضوعه للتغيير والتبديل الدائمين خارج السيطرة الارادية للفرد ، تماما كما يكون الوعي تحت تأثير حلم لا سيطرة له على مجرياته ،هكذا هو وجودنا في العالم الحسي مثل وجود الحلم هو من نفس طبيعة الحلم والفرق فقط في ان حلم النوم قصير وحلم اليقظة طويل ..
نحن عملياً كما حدثنا بوذا وغيره من حكماء مستنيرين ، وقد حدد اربعة اشياء لا يستطيع الانسان مواجهتها الا بحكمة الكشف والاستنارة والانعتاق..(( اولاً : يولد الانسان بغير ارادته ثانيًا : يمر في طفولة عاجزة شبه لا واعية ثالثاً : يمر في المرض والعجز رابعاً وأخيراً يموت)) اي قيمة لمثل هذه الحياة الارضية الزمنية ؟! ومع العلم ان جميع انجازات الانسان عبر التاريخ من تطور وتقدم لم تفلح في انقاذه من هذه الفصول الأربعة ..
وربما بسبب العجز عن التعمق الى ما وراء القاعدة (الطبيعية) السائدة للحياة وللتفكير والفهم ، وبالتالي عدم العمل الجاد على التحرر والانعتاق، جاءت في بعض الديانات فكرة المخلِّص، مثل المسيح المنتظر والمهدي وإمام الزمان الخ .. وفكرة الجنة والملكوت السماوي ..
وهناك مدارس ومعتقدات وفلسفات ومذاهب حاولت ان تقيم الربط والتسوية والتوفيق بين اللا زماني واللا مكاني ، وبين الزماني المكاني المحسوس ، اي بين الحلم واليقظة ،بين الروح والجسد، بين الله والعالم ، فلا معنى لوجود روح مجرد بدون تعبير بدون جسد، بدون حقل يظهر وجوده ومعانيه وحكمته وجماله فيه، وبالتالي لا موجب للانعتاق والتحرر ، بل ولا يمكن الانعتاق والتحرر الا نسبياً سواء في هذا العالم او في غيره - ان كان ثمة وجود آخر -
والسؤال في المحصلة : هل التحرر النهائي والكلي - الذي هو تطهر وطهارة من الرغبات والشهوات المادية المختلفة - ممكناً لروح فقد وعيه بذاته واستغرق كلياً في عالم الطبيعة والفكر ؟!