أذكر أنّه في ستِّينات القرن الماضي، بعد تعكير الجو الأمريكي بكراهية العرب، إثر اغتيال أحد الأخوين جون كنيدي أو روبرت كندي، اعتُقل شاب فلسطي الأصل أردني الجنسية ،يُدعى سرحان بشاره سرحان، بتهمة الاغتيال، فتوجّهت أصابع الاتهام إليه كفرد وإلى العرب كمجموعة، ومن هذا المناخ أُنتِج وأُخرِج وأُذيع مسلسل من صوت العرب، يوم كان صوت العرب من العرب وإلى العرب، وكانت تُسْتَهلّ كل حلقة بعبارة تُطلق بصوت جهوري، يُحرّك فينا كوامن العروبة النامية، قائلا : "أقْتُل عربيّا تأخذ دولارا".
هذه العبارة رغم ما فيها من مبالغة، ورغم مرور نصف قرن تقريبا لا زالت تجرح أعماق النفس الحيّة بعروبتها، ومما يزيد من عمق ما خلّفته من جروح أننا اليوم، ونحن في بيوتنا، وعلى أرضنا، والوطن وطننا، نعيش في جو مُشْبع بكراهية العرب، كراهية على الصعيد الرسمي كما هي على الصعيد العام لدى الرعاع الذين تحركهم أصابع عنصرية السلطة في هذه البلاد.
التحريض هنا كالإعصار يضرب في كلّ مكان من هذا الوطن، يقتل ويُدمّر، وما تمثيلية محاكمة الجندي القاتل ليئور أزاريا والتي أنتجتها السلطة وأخرجها جهاز القضاء، بمختلف درجات محاكمه إلا من أجل تَجْميل الوجه في الساحة الدولية وأمام الرأي العام العالمي، مثلها مثل مسرحية عامونا وإخلائها المزعوم. وشارك في تأدية الأدوار مختلف أجهزة الحكم في الدولة مع قطاع من الجمهور المتطرف الذين أخذوا يهتفون خارج قاعة المحكمة ببطولة أزاريا الكاذبة والتي صوّرت في كاميرا منظمة بتسيلم المحايدة، والمغضوب عليها من قبل السلطة، والحكومة وجهاز المخابرات، وقسم لا بأس به من الإعلام الإسرائيلي، ويهددون باقتحام قاعة المحكمة، ويهددون أيضا قائد الأركان وهم يصرخون: "غادي، غادي، انتبه، رابين يفتش عن رفيق"، لماذا؟ لأنه قال بما معناه أن الشاب حين يتجنّد يمكنه أن يتحمل المسؤوليّة، مع أنه ليس له ماض إنساني، ولا يختلف عن مَنْ سبقه أو مَن سيخلفه من ضباط جيش الاحتلال.
كما أظهرت كاميرا منظمة بتسيلم سائق سيارة الإسعاف وهو يركل سكينا بعيدا باتجاه الفلسطيني المقتول، كي تكتمل حياكة التهمة الكاذبة التي يلفِّقونها دائما لكثير من الضحايا الذين يقتلونهم عند الحواجز، عن بُعْد عشرات الأمتار، بحُجّة أنهم يشهرون مقصّا أو سكينا ويهددون، وعن بعد، الجنود المُدجّجين بالسلاح والعتاد العسكري.
ومع لك أدانت المحكمة أزاريا بتهمة القتل غير المتعمد، رغم أن رئيسة المحكمة ذكرت أنه قام بالقتل بطريقة محسوبة، وأنه أطلق النار بلا سبب يدعو لذلك، وأنه أعطى خوذته الفولاذية لصديقه وبعد ذلك أطلق النار على الفلسطيني الجريح، مما يؤكد انه لم يكن معرضا لأيّ خطر، ومع ذلك نسي القضاة ذلك عند الإدانة وأدانوه بتهمة القتل غير المتعمد.
إن هذه المهزلة تؤكّد سياسة "اقتل عربيّا تأخذ دولارا". وبما أن الدولار وحْدَه لم يعد يبهر الأنظار بلونه الأخضر الباهت، صار من يقتل عربيا في هذه البلاد يأخذ وساما، وسام بطولة، فالرعاع منحوا أزاريا القاتل وسام البطولة، وتجنّد بعض الوزراء ومعهم رئيس الوزراء نتنياهو بالعمل على منح أزاريا "ألضحية" عفوا، وقد يُرقّى لمنصب مفتوحة أبوابه إلى أعلى المناصب كمنصب وزير، أو قاض كما عُيّن ألعقيد شومير قائد لواء بنيامين، حين طارد فتى فلسطينيا وأطلق النار على ظهره فقتله، ومع ذلك لم يخضع هذا الضابط لمساءلة قانونية أو لأي عقاب مهما كان بسيطا، إنما عُيّن قاضيا عسكريّا، ربّما يكون ذلك مكافأة له على قتله للفلسطيني، أو يصبح يوما مديرا لمصلحة السجون، أو نائبا للمدير كما رُقّي الضابط (الاحتياطي) إيلان مالكا لرتبة غوندار الموازية لرتبة جنرال في الجيش والذي عُيّن نائبا لمدير مصلحة السجن، كإعفاء له من تهمة إصدار أمر راح ضحيّته 21 فلسطينيا.
إن للعنصرية والكراهية في هذه البلاد رائحة نتنه، لا تغطي عورتها كل أورق التين، ومعها كلّ أوراق التوت، ولا التبجح بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولا المسرحيات الهزيلة في المحاكم الصورية، آن لهذه الحكومة ولغيرها من الحكومات القادمة، ولهذا الشعب أن يُدْرِك أن سياسة الحقد والكراهية والعنصرية شفافة، تحكي عنها رائحتها النتنة، ويشمّ رائحتها المزكوم، توُنْطِق الأبكم ، وتُسْمع الأصم، ويراها المُضلَل حتى لو وضعوا على عينيه ألف غربال.