من زاوية اخرى احاول القاء مزيد من الضوء على ما يمنع المعرفة والتحقق بجوهر وجودنا .. على الرغم من ان وصف المانع التقليدي للمعرفة بالجهل ، ببساطة الجهل بحقيقة او بحقائق انفسنا ، فان الكشف عن تلك الاشكالية يوصلنا الى ان الاشكالية تكمن بمحاولة المعرفة او بطريقة او بالطرق السائدة للمعرفة ،اي بما حددناه على انه معرفة او ما يوصِل الى المعرفة .. وهو موقف قد يتصور البعض ممن درسوا الفلسفة في الجامعة ، ان الباب الذي يجب طرقه للتعامل مع اشكالية المعرفة هو "مبحث المعرفة " كأولوية تقف في رأس المباحث الأخرى – انطولوجيا ، قيم ، معرفة – حسب القاموس التاريخي للفلاسفة ، وبغض الطرف عن هذا الموقف يظل تعاملي مع الموضوع "عرفانياً " من خلال تجربة الاتصال المباشر التي تقضي بتجاوز الفكر ، اذ ان مشكلة المعرفة بجوهر الوجود الذاتي هي في العقل نفسه ، حيث من متطلبات العقل (البحث) في حين ان الحقيقة لا تحتاج الى بحث – كما يقتضي الاتصال بها – ومن متطلبات العقل جمع المعلومات وتعيينها والتمييز بينها ومقارنتها ، وكل هذه العملية هي خروج مستمر عن الجوهر الذي نهدف الى الكشف عنه باعتباره حضوراً مباشراً ووجوداً مباشراً لا يحتمل الزمان وهو غير متحيز بمكان ..
وفي الواقع ان الاتصال بهذا الجوهر هو تنبه له بالكلية ومرة واحدة بلا تفكير ، وفي الحقيقة ايضًا هذا الوصف هنا معناه ليس مجرد وصف لتقنية "يوجية " ولعملية مجردة بسيطة نقوم بها صباحاً ، اذ معنى الاتصال بالحقيقة الوجودية الخروج عن الانا ( الايجو) الظاهري ، الذي هو وجودنا الشخصي، الذي هو نتيجة تراكم معقدة مركبة من شتى العناصر والمؤثرات التاريخية النفسية والبيلوجية والاجتماعية ..
متطلبات العقل - بهذا الاعتبار - هي التي وقفت وتقف وراء الفكر الموسوعي للفلاسفة عبر التاريخ من ارسطو حتى كنط وما بعده .. الفيلسوف يخرج بذلك عن الوجود للتفكير فيه ، تماماً كما يخرج المتدين عن الله ليصلي له (بفضل) العقل البشري هذا نفسه ، سواء كان عقل فكري فلسفي او ايماني وعقائدي ..
طبعاً هذا يجري بصورة لا واعية او شبه لا واعية لدى كل من الفيلسوف العقلي ورجل الدين ، اذ القصد من الوجود دائماً هو ذاته لدى كافة البشر اصلاً ، بل ولدى كافة الكائنات، وهم يتدرجون الى الحقيقة الحاضرة حسب مستوى التيقظ فيهم تجاهها ..
و(الابسورد) يتمثل في عدم امكانية الجمع بين العيش في متطلبات العقل كمجموعة ردود أفعال على الواقع المادي والاجتماعي ، وبين الحاجة الى تجاوز العقل في سبيل التحقق والتحرر الذاتي التام .. هذا رغم محاولات التوفيق التي تحدَّث عنها بعض المفكرين كما في "جدلية المثالي والواقعي" لدى كمال جنبلاط وبعض شراحه ولدى آخرين .. وربما صح التوفيق حتى محاذاة حدود التحقق ، اما مع التحقق الكامل فلا يمكن الاستمرار في التوفيق على مستوى العلاقات المعروفة عبر ثنائيات الوجود الظاهر ، حيث لا بد من تفكيك العقل نفسه ليس بصورة نظرية مجردة ، بل بصورة فعلية ، كما يتم تفكيك الذرة الفيزيائية ..
وفي الواقع ان وصف المعرفة كتفكيك للعقل وتجاوزه قد يؤدي الى الفهم بأننا ندعو الناس للجنون لا الى التحقق بجوهر وجودهم ، فالعقل هو السمة الرئيسية والأساسية للانسان السوي او لسوية الانسان الطبيعي (العاقل) المتميز بالإيجاب والرقي والتطور، فكيف يكون العقل هنا عائقاً وهو عامل تطور تاريخي متصاعد وهو أساس في تنظيم حياة الناس وأساس في الأخلاق والقيم الانسانية ؟! في الحقيقة العقل هو كذلك حقاً في نطاق الابعاد المعروفة للعقل فقط ، اي في نطاق العيش الزمكاني ، بينما جوهر الذات لا يدخل في مفاهيم وافكار وزمان ومكان ، ولذلك فالاتصال به يقضي بتجاوز العقل لا محالة ..
وهذه العملية يتم عبرها الانقطاع عن السياق التاريخي وعن تراكمات الماضي ، ليكتشف الله ذاته عبرنا في صورة طاقة ازلية حية غنية بذاتها وواعية لذاتها ،فيكسر قشرة البيضة البشرية ويتحرر في المطلق .. وقد تمثلت هذه التجربة الفريدة عند رمانا مهريشي وراما كرشنا وسواهما من المتحققين المعروفين لطلاب الحقيقة ،ولا نتحدث هنا عن كائنات من الفضاء الخارجي او عن ملائكة ، بل عن بشر مثلنا .. فالسجين الذي يوجد في القفص البشري هو الله او شيء منه ، والذين يصلّون لله كي يشفيهم ويخلصهم وينقذهم لا يعلمون هذا وهم اذ يصلّون يصلّون لصورة اخرى لذاتهم سجينة في عقولهم وقد تعلقوا بها وقدسوها ، بينما علماء المادة يسعون عملياً وبصورة لا واعية ايضاً الى تفجير هذه الطاقة الذاتية من خلال سعيهم لاكتشاف العالم الخارجي .. وهنا اكون قد ابتعدت طبعاً عن الواقع العام في هذا الحديث، واخوض فيه فقط لمحاولة الكشف عن اشكالية المعرفة والتحقق التي يواجها طالب الحقيقة النهائية ، وهي اشكالية العقل نفسه في النهاية .. لكن الى ذلك يجب الاقرار الى ان مجتمعنا بنخبه لا يوجد في هذا الطور من الاهتمام بالموضوع ، والحديث عن العقل بوصفه عائقاً للتحقق بجوهر الوجود، لا يعني العرب والمسلمين عموماً في الراهن ، بل هو وجوب الأخذ بالعقل بمختلف اشكاله المنطقية الواقعية ، اي بعد ان تكتمل انسانيتنا عبر تحررنا الثقافي الاجتماعي والسياسي .. وبكل الاحوال اعتبار العقل كعائق في مستوى التحقق بجوهر الوجود، يعني فقط طلاب الحقيقة الاخيرة لوجودهم، وهم الى الآن افراد قلائل جداً وسط الأدغال البشرية ..