توهج الكلمة وإيحاءاتها في ديوان " على بساط الروح " للدكتور عناد جابر
بقلم : الدكتور منير توما / كفرياسيف
عرفنا الشاعر الدكتور عناد جابر في دواوينه الشعرية السابقة شاعراً رحب الخيال , رائع التصوير , يجمع ما بين الشعر الكلاسيكي الموزون المقفّى والشعر الحُر جمعاً حضارياً حافلاً بالفن والجمال . وقد سار على هذا النهج في آخر دواوينه الذي يحمل عنوان " على بساط الروح "من حيث نظام القصيدة والقافية بل ترك لفنه ِ وذوقه أن يختار الموسيقى أو الإيقاع الذي يلائم كل موقف من المواقف التي تعرّض لها في قصائد هذا الديوان , فهو يعانق الكلمات بعذوبة روحانية فيها حب وألم وخيبة أمل حياتية مقرونة بسخرية حيناً , وبتوق ٍ الى التحرّر من أغلال معاناة ٍ كامنة ٍ حيناً آخر بحيث تنساب العاطفة من نفسه ِ انسياباً يحييه الأمل ويغلّفه الألم , مستغرقاً في موضوعات شعره هذه بكل ما عنده من طاقات لاسيما وأنَّ هذه الموضوعات تتمحور حول الحب بكافة صوره ِ وأشكاله ِ من غزل ٍ ورثاء ورغبة في الوصال مع الحبيب حيث أن الحب في نظره ِ شفافية نفسية , ولهفة كيانية تفيض بها المشاعر .
فالحب عنده يحتوي جماليات الحياة بإيحاءاتها وتشعباتها وتداعياتها , بعيداً عن المهاوي والعيوب التي تجرِّد الإنسان من إنسانيته . وكل ذلك يتجلّى في شعر الدكتور عناد من خلال نبرة هادئة , أنيقة راقية تتسلّل في ثناياها حبّية حافلة بالعذوبة الناعمة والحنين المتألم , وهذه المعاني نلمسها في قصيدة " قلبي معك " ( ص 13 ) , وفيها يقول :
هذي دموعي
فانتشل ْ من نبعها
كيما تعانق مدمَعك ْ
واليك َ نارُ الجرح ِ
في كبدي ...
وأنّاتي
تلازم ُ مضجَعك ْ
واليك َ دفءُ تعاطفي
ولو أنّه ُ – يا حسرتي –
لن ينفعَك ْ
لم يبق َ غير ُ الصبر ِ
من أحد ٍ مَعَك ْ
لك يبق َ من أحد ٍ معك ْ
لكنّه ُ قلبي ...
مَعَكْ !
إنَّ هذه الكلمات تعكس محطات اختلاجات شاعرنا النفسية والعاطفية , وفيها يفتح نوافذ نفسه على الإنسانية المعذّبة بألفاظ ٍ متدافعة انسيابية تتخللها الحلاوة والمرارة ونفحات الروح الكئيب النابعة من الوجدان باعتبارها ترجمان النفس المحتدمة في تعبيرها بالإحساس الجمالي , والصدق الوجداني .
ونرى في قصيدة " ذاكرة الجنين " ( ص 19 ) أنَّ شاعرنا يعالج ما نلمسه في المجتمع من جحود ٍ ونكران للجميل من جانب الكثيرين الذين يتناسون الخير الذي أسداه وفعله معهم الآخرون , داعياً إيّانا الى عدم الندم على ما صنعناه من جميل ٍ لأنَّ في ذلك راحة ً للضمير وسعادة في لذة العطاء وإنْ تجاهله أمثال هؤلاء الجاحدين . وفي هذا الصدد يقول شاعرنا :
فلا تأمل إذا أحسنت َ صُنعاً
بأن تُزجى بخير ٍ من مَدين ِ
لبعض ِ الناس ِ ذاكرة ٌ تحاكي
مع الأيام ِ ذاكرة َ الجنين ِ
فلا تندم ْ على عمل ٍ جليل ٍ
ونهج ٍ في اعتقادك َ مثل دين ِ
وكُن كالورد ِ لا يرجو ثناء ً
إذا ما جاد َ بالعطر ِ الدفين ِ
وحسبُك َ إن ْ كسبت َ صفاء َ نفس ٍ
وإنْ صُنت َ الضمير َ بلا أنين ِ
في هذه الأبيات نلتقي بشعر ٍ نابض بالحياة , يتّسم بالرصانة المكينة , والاستقامة البعيدة عن الملامة , يسوقها شاعرنا في ذوق ٍ وسلاسة وسهولة و وينتهي به الى مغزى اجتماعي رفيع المثالية مما يُكسِب الكلام كثيراً من الحيوية والعذوبة والحكمة الناضجة كأني به يذكّرنا ببيت ِ شعر ِ الحطيئة حين قال :
مَن يفعل الخير َ لا يعدم ْ جوازيَهُ
لا يذهب ُ العرف ُ بين الله ِ والناس ِ
ومن حيث أنَّ لغة الشعر أساساً تعتمد على التصوير والمجاز والإيحاء , فإنَّ الشاعر حينما يستخدم تلك الأساليب البلاغية كالمجاز والاستعارة والسخرية والتشبيه , يكون له موقف تجاه موضوع قصيدته ليوصلها الى قرّائه ِ . وبما أنَّ الجو العام للقصيدة يحدّد اختيارات الشاعر لكلماته وأساليبه البلاغية , فإنَّ شاعرنا يلجاً في قصيدة " دق على الخشب " ( ص 21 ) الى توظيف السخرية كسخريته ِ من المآخذ والعيوب الإجتماعية في مجتمعنا العربي على الصعيدين المحلي والعام , ومع التصوير الفكِه , والروح العذبة , والوخز , والغمز , والتقريع . فقد ورد في قول الشاعر ساخراً ومتهكماً بصورة يغوص فيها الى أعماق الأشياء , ويلقي الأضواء الكاشفة على مثالب الفرد العربي وعيوب مجتمعه ِ :
لا تبتئس يا صاحبي !
ربيعنا بدر ُ التمام ْ
فإننا نعيش ُ في التحام ْ
مرصوصةٌ صفوفُنا
مرصوفةٌ دروبنا
بالحبَ والوئام
تسامحٌ وإلفة ٌ
كرامة ٌ وعِفَّة ٌ
أديانُنا مُوَحَّدة ْ
أعيادنا مُوَحَّدة ْ
أمجادُنا مُجَدَّدة ْ !
كم صرتُ أخشى
يا أخي !
مِنْ شرّ عين ٍ حاسِدة ْ
بالله دُقَّ على الخشب ْ !
واشرب معي نخب العرب ْ
وافرح معي
لأننا بألف ِ خير ٍ
ألفِ خير .
وهنا نشعر في هذه المقطوعة من القصيدة بما أراد شاعرنا من تصوير ٍ لجوانب كئيبة ٍ من المجتمع العربي التي يسعى الكثيرون الى تجاهلها . ومن اللافت أنَّ شاعرنا يتّخذ من التلميح الذكي وإصابة الهدف بأقل قدر ممكن من التجريح , وسيلة ً للهجوم على الأوضاع المقلوبة للمجتمع العربي , وهذه الطريقة هي من الشروط الأساسية التي يجب أن تتوافر في فن السخرية خاصة ً عندما تهاجم الجانب المتجهِّم في المجتمع الذي يثير ابتسام المتلقي , لكنها ابتسامة مريرة ساخرة تحمل شحنات من الأسى والهم وعدم الرضى من الوضع القائم اجتماعياً وإنسانياً .
وبمتابعتنا لأغراض شعر الدكتور عناد جابر في هذا الديوان , نأتي على شعره ِ الغزلي الرقيق العذب بشفافيته ِ وتدفقه ِ , فنلمح كيف أنَ الشاعر يتجه في قصيدة " عرس رؤاي " ( ص56 ) شأنه في ذلك الشعراء الرومانتيكيين الذين جعلوا من القلب إماماً وهادياً لهم في أشعارهم , فنراه ُ يهيم في الحب والعواطف الذاتية والإنسانية مستلهماً الطبيعة مجازياً وكل قيم الجمال الكوني , مناشداً الحبيبة الى العودة اليه وهجر الإغتراب والفراق للإستمتاع معاً بحرارة اللقاء , ولنستمع اليه قائلاً :
تطلين شمساً على عتم قلبي
وفي الليل ِ بدراً سنيَّ الضياء
وتهمين غيثاَ على قفر ِ روحي
فتخضرُّ روحي ويعلو النماء
تعالي إليَّ عروس َ رؤاي َ
وضمّي حبيباً لقلبكِ جاء
تعالي نعانق طيوف الأماني
فتنساب َ فينا سيول َ انتشاء
كفانا اغتراباً بعتم ِ المنافي
وموتاً بطيئاً بِسُمِّ الجفاء
بَعُدنا وعشنا جنون َ التنائي
فهل سنعيش ُ جنون َ اللقاء ؟
لقد استطاع الشاعر في هذه القصيدة الجميلة أن يحملنا بكلماته ِ الرقيقة العذبة و الموحية , وأسلوبه المؤثر البليغ , الى عالمه ِ الرفيع , عالم الذكريات الموحية كي يلامس قلوب المتلقين ويشعل مواجدهم , ويهز مشاعرهم برعشات ٍ مشجية ٍ مؤلمة . كما استطاع أن يحافظ على تسلسل الوحدة الموضوعية , دون ضغط ٍ , للفكر والمشاعر مما ساعده على رسم ما في نفسه ِ بأجمل الصور والألوان ذات البعد الإنساني العميق .
ولا يفوتنا هنا أن نشير الى أنَّ هذا الديوان يتضمّن عدداً من قصائد الرثاء , خصَّ بها شاعرنا بعض الراحلين من أحبائه ِ وأصدقائه ِ , فقدّم لنا شِعراً نابضاً بكل عاطفة مؤثرة واختلاجه مُفجِعة , فاكتمل في هذه ِ المراثي وفاء شاعرنا لهؤلاء الأعزاء لديه وتمثّل خلقه الكريم النقي السوي ّ كإنسانٍ صادق ٍ ودود .
وخلاصة القول أنَّ الشاعر الدكتور عناد جابر قد اثبتَ كما عوّدَنا دائماً أنه شاعر الفن الهادئ , والكلمة الرصينة المتوهّجة الحافلة برشاقة الألفاظ والمعاني , والسلاسة والجمال بقالبها وإيقاعها الجميل مما يبعث الراحة في النفس والصفاء في الذهن .
فله منّا أجمل التهاني بصدور ديوانه " على بساط الروح " وأصدق التحيات مع أطيب التمنيات بالصحة والتوفيق وبالمزيد من الإبداع والعطاء .