هل أتى العالم خلقاً ، أم تطوراً، أم فيضًا .. 
30/01/2017 - 04:21:58 pm

هل أتى العالم خلقاً ، أم تطوراً، أم فيضًا .. 

كميل فياض

 

سأعرض لثلاث وجهات نظر حول بروز الكائنات الى الوجود ،ولا ادري ان كانت توجد امكانية رابعة لبروزها الى الوجود .. وسأبين العيوب التي تعتورها وسأعرض لأكثرها معقولية من وجهة نظري ..
 

نظرية الأديان :

الخلق كما في التصور الديني الابراهيمي :  - اي كما في اليهودية وفي الاسلام تحديداً -  دون دخول مكثف رسمي ثبتي بالسورة والآية والصفحة كما في تقليد الرسمي ،فالآيات والمعلومات معروفة ويمكن استظهارها من (جوجل بلحظات ) .. باختصار الرواية الدينية تقول ان ثمة اله شخصي خلق العالم من عدم بستة ايام، (بهندسة وتصميم وتقدير سابق) ..
من عيوب هذا التصور : أولاً ان هذا الشكل لمجيء العالم هو تصور محض ايماني ، لا يحمل معه ادلة وحجج عقلية علمية كافية ، انما يعتمد الايمانيون لإثبات وجود الخالق الشخصي المفارق ،على منطق القياس والمطابقة لضرورة وجود صانع  لوجود الصنعة .. لكن هذه الاديان لا ترى في الإله كصانع للخلق من مادة قائمة في الازل ، بل ترى العالم خلقاً من عدم ،والخلق من عدم مستحيل في تصور العقل .. ثانيا حتى لو قبلنا في المبدأ هذا التصور للخلق ،فان واقع هذا الخلق يتعارض ومنطق النص الديني وروحه في عدة نقاط : منها فكرة العناية الالهية حيث عبث الطبيعة المدمر للمعابد وروضات الاطفال والمشافي قبل غيرها احيانا، وحدوث المجاعات والامراض التي تفتك بملايين الاطفال وذويهم ما يتعارض مع فكرة العناية والرحمة ، سيما وقد حث النص الديني الناس على الرحمة والرأفة بالحيوان والانسان .. ومن عيوب الاديان كثرة الرسالات الالهية واختلافاتها، ومنها وجود اخطاء في النصوص الدينية لغة ومضمون ،حول حقائق الكون ،حيث وجوده اقدم بكثير مما جاء في التوراة ،بل هو ازلي من حيث المنطق العلمي الصحيح الذي يقول "ان المادة لا تفنى ولا تخلق بل تتحول وتتغير"  كل هذا يتعارض وكون المرسِل اله كامل خال من النقص والعيوب .. ومن عيوب نظرية الخلق الديني ،تناقضاتها في الدعوة للخير وللشر معا كما في اليهودية والاسلام - في اليهودية مثلاً : "لا تقتل لا تعتدي الخ " وفي مكان آخر : " ادخلوا كل مدينة واقتلوا واسبوا واحرقوا " الخ .. وبينما يأتي في القرآن: " لا اكراه في الدين - تبين الرشد من الغي – الينا ايابهم وعلينا حسابهم " حتى يأتي النقيض : " وقاتلوهم حتى يسلموا – صلبوهم وقطعوا ايديهم وارجلهم من خلاف – يعذبهم الله بأيديكم " الخ ..وفي النصرانية : بينما دعا يسوع الى محبة الأعداء والغفران لهم ، يعد الانجيل الخطئة بجحيم ابدي ..  ثم خطأ فكرة مركزية الارض بالنسبة للكون حيث يوجد مئات الملايين من المجرات والمجموعات النجمية والكوكبية التي لكل منها مركزها.. وخطأ فكرة فوقية الانسان وان كل شيء مسخر له ، في الوقت الذي تفتك به الفايروسات غير المرئية بالبصر المجرد ،وهو اقل احتمال لتقلبات الطبيعة من جميع انواع الحيوان تقريباً – لو لم يتحصن بعقل يميزه عنها بفضل العلم - ناهيك الى ان كثير من الكائنات الحية تعيش اكثر من الانسان عمراً .

 

نظرية التطور :
 

اما نظرية التطور فمن عيوبها انها تعاملت مع بروز الكائنات الى الوجود والحياة من الجهة البيئية والبيلوجية الصرف ، ولم تعط  تفسيرات مقنعة للنواحي الجمالية بالنسبة للنبات والحيوان ، وللصفات المعنوية والعقلية والروحية بالنسبة للانسان ، واقتصرت على تجميع ادلة مادية تخدم تطور الكائنات او تحولها ، رغم ان تغيرها يعتبر جانب عرضي ازاء مادة الكائنات ذاتها وكيفية نشوئها كمادة حية عضوية ، وهي الاساس لبنائها وتطورها المحسوس المتكثف والمتراكم بعد ذلك ، فتكوينها يحمل اثر لمنطق عقلي بصورة واضحة، كحمل الصنعة اثر الصانع الارادي التصميمي الواعي .. فكيف يمكن لتراكم الحركة وحدها عبر جزيئات المادة ان يجعلها تلتقي لتشكل هذه الكائنات كالحشرات والاسماك والطيور والزهور الخ .. وما خص الصفات الجمالية الخالصة بالانتخاب الطبيعي الذي يعتمد القوة في بقائه، مثلا كما لدى النمور والاسود ؟! وما علاقة القيم العليا في حياة الانسان بالانتخاب الطبيعي ،التي منها التضحية بالنفس احيانا لا على أساس صراع بقاء بيلوجي خالص ، بل على اساس ايديلوجي ، ديني ، فلسفي لا يمت لحاجة التكيف الطبيعي ؟! .. ان انكار وجود عقل - مستقل ومتحد في آن - في عمل بروز الكائنات الى الوجود ،من قِبَل اتباع نظرية الانتخاب الطبيعي ،هو عمليا انكار لعقولهم ولعقل الانسان الذي ما كان يستطيع ان يبتكر ويصنع الآلات لولى العقل ، فما بالك بالكائنات الحية التي تحتاج الى عقل اكبر واعقد واذكى بكثير من عقل الانسان ! ولا ننسى ان الانسان هو ايضًا كائن طبيعي خالص في الاصل، وجزء لا يتجزأ من الطبيعة ، فمن أين أتى بعقله ..

نظرية الفيض :

يبقى لدينا امكانية الخلق بالفيض عن اله ،او الأصح عن الوهة الوجود ذاته بطبيعته الازلية اللاشخصية ، فالألوهة سابقة في وجودها على الاله او على فكرة الاله الذي هو العقل كصفة عارضة للوعي المحض ذاته في الأشياء عبر تجسم بذور الخلق به .. الفيض الذي يحمل فيه صفة العقل الى جانب الحركة العمياء، وهما معا شكّلا هذا الخلق ، هي حركة عمياء للعقل لكونه قوة وعي مجردة لا شخصية – على الاقل ما قبل طور الانسان حيث الشخصية المعنوية العاقلة تمثل نهاية التطور الخَلقي قبل العودة الى المجرد المحضي ، كما في تجربة رمانا مهريشي وكبار المتحققين بالوعي المحض .. ولدينا مثال الشمس كرمز للوعي المحض ازاء ما تنتجه في محيطها  بحرارتها وضوئها وطاقتها ، دون قصد مسبق ودون تصميم ارادي شخصي واستهداف واعٍ ، فهي مجرد مكنة ( بوتنتسيال) وطاقة ، كما الوعي المحض الازلي .. اما نشوء العقل الواعي الارادي من الوعي المحض اللامحدود ، فقد برز مباشرة من اتصال الوعي المحض بالاشياء التي بدورها تكونت بفعله ، حيث من هذا التركيب ومن التكثف تكوَّن عقل مجرد مفارق ملازم للأشياء ، ومن ثم صار التطور حتى نهايته مصحوبا بعملية تخريجية وفق البذور الكامنة للمخلوقات وقابلياتها في طاقة الوعي المحض في الاساس .. ان خروج الموجودات من بعضها، من صورها اللطيفة الشفافة الى صورها الكثيفة بالتدرج بكل انواعها واجناسها في حركة تدفق ، هو ما جعلها تحمل صفة الفيض والحتمية .. والخلق هو ظهور من كمون لصفات رئيسية ذاتية اصيلة ولصفات مكتسبة عرضية معاً ، وليس الخلق تركيب وتطور جديد كلياً او خلق من عدم .. ان ظهور الكون من بذوره كظهور النبات من بذوره وهو ينطوي على الصفات الاساسية للنبات كله حتى نهاية نموه ، كذلك الكون ، فلا جديد تماماً ولا تجدد الا كتجدد الشروق كل يوم من اصل ثابت ، والجدة في معظمها هي في اعادة الاكتشاف مع عودة الخلق من الاصل لما هو قائم في الاصل .. والشعور بأننا نعرف كل ما نلتقي به لأول مرة ، هو تذكر حدسي عفوي لما هو معروف لنا مسبقاً ..
ان الواقع الطبيعي الذي نراه يحمل صفة المنطق العقلي التنظيمي الهندسي ، هو كذلك بنسبة حوالى سبعين في المئة ، الى جانب فوضى وعبث بنسبة حوالي ثلاثين بالمئة ، لكون نسبة العقل من الوعي المحض في الاشياء العمياء ما يقارب السبعين في المئة ، والصفة التي يحملها العقل صفة ذكاء يتصاعد مع الانا والشخصنة والتعقيد طردا مع التحول من ادنى البساطة في الكائنات واحدة الخلية حتى اعلاها تركيبا وتعقيدا في الانسان وربما الى ما فوق الانسان.. ويمكن ان اشبّه الخلق بصفتيه العاقلة والفوضوية رمزيا وتقريبياً كفريقي كرة قدم جميعهم في مستوى ميسي ورونالدو ، يلعبون ضد بعض وقسم كبير منهم يلعب معصوب الاعين، فيختلط جمال الحركة الارادية مع قبح العجز عن التكامل .. هكذا هو قضاء الصيرورة عبر جدل الاضداد التخليقية.. وأشبِّه فعل الطاقة في المادة حيث تُكسِبها قوة منها تجعلها تتحرك بصورة شبه مستقلة ، او هي بالأحرى تبدو كذلك ، كشلال يحرك فراش مولِّد ، فلا علاقة واعية ارادية خصوصية بينهما ، مع ذلك يتركا انطباعًا عن توافق وانسجام وتصميم مسبق ، كما يبدو ان المولِّد يعمل بقواه الذاتية .. فتصور ذلك الموِّلد الذي يُنتج حضارة بكل ما فيها من تنوع وتركيب، يحركه نهر جارٍ لا مبالٍ ، هكذا هو الوعي المحض الازلي كالنهر والموِّلد هو كالعقل، والحضارة هي كالخلق، والأبنية والمنشآت والآلات ومنتجات الادب والفن كالمخلوقات.. وفي الواقع ان فكرة مجيء العالم من العدم لا تقل استحالة من فكرة ان المخلوقات ازلية دون خالق او صانع ارادي ما لها وفيها، ومن هنا كان لا بد من ايجاد التسوية بين ضرورة وجود عقل الى جانب وجود مادة الخلق ، وهنا لا بد ان تكون هناك بداية او بدايات عبر دورات لا متناهية للخلق كتشكيل، فلا يمكن ان تكون ازلية بصورة كلية الا كمادة خام غير متشكلة ، وهذا ما يستبعد ان تكون مجرد خروج من كمون بكل ما فيها وعليها من صفات .. اذن هناك صفات ذاتية واخرى مكتسبة جديدة في كل شيء وفي كل حركة ، وهذا ما يفسر عملية التغيير العادي والنوعي ، وكون المادة قابلة لأن تكتسب صفات جديدة ،الى جانب صفاتها الثابتة هو ما يجعل تطورها ديالكتيكي لا ميكانيكي يعود على نفسه بالتمام ، فهناك جانب قديم من الصفات يرافق المتغير منها داخل امكانية تخليقية لا متناهية ..

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع المدار بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير
الاسم الكامل :
مكان الاقامة :
التعليق :
هام جدا : أدارة الموقع لا تنشر اي تعقيب فيه تجاوز لقانون القذف والتشهير, وتقع المسؤلية على كاتب التعقيب
Copyright © almadar.co.il 2010-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع المدار الاول في الشمال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت
X أغلق
X أغلق