الرئيسية
اضفنا للمفضلة
اتصل بنا
ملمس أوراق السنديان في قصائد " غضب " مفيد قويقس
بقلم : الدكتور منير توما / كفرياسيف
كم كان سروري بالغاً حين أهداني الأستاذ الشاعر مفيد قويقس ابن قرية يركا العامرة والعزيزة بأهلها الكرام , نسخة من ديوان شعره الذي يحمل عنوان " الغضب " حيث استمتعت جداً عند قراءة قصائده ِ الحافلة بالمعاني المتينة والموسيقى ذات الإيقاع الكلاسيكي , والألفاظ الجزلة التي تؤثر في نفس القارئ المتلقي الذي يهوى الشعر العمودي الموزون المقفّى الذي اعتمده وأبدعه شاعرنا بكلّ تمكُّنٍ وإتقان ٍ يضاهي ويوازي إبداع كبار الشعراء الذين لا يقل شاعرنا عنهم منزلةً أو مكانة ً , فشعره ُ كأوراق السنديان في نعومتها وملمسها وشكلها الموحي بصلابة شجرها العريق الذي يتماهى مع أصالة مفيد قويقس في الإنسانية والوطنية والأمميّة كما تشهد له قصائده في هذا الديوان , وخصاله الكريمة في بلدة ٍ أبيّة زاهرة البنيان .
يستهل شاعرنا قصائده في هذا الديوان بقصيدة " أنا من دمشق ومن حلب " معبِّراً عن حبه الأثير وعشقه ِ الفوّاح بالعبير للشام , ناقلاً لنا مشاعر الحزن والألم والأسى للكوارث التي حلّت بهذا البلد العريق حضارياً وإنسانياً وعروبياً , وفي هذه المعاني يخاطب الشام متحسراً على ما أصابها من ويلات قائلاً :
يا شام يا خيط جُرحي يا مدى وجعي
يا بيت َ أهلي بمَنْ ظلّوا ومن ذهبوا
لم يبقَ ذاكرةٌ مني ومن زمني
إلّا وفيها عليكِ الحُزنُ والكُرَبُ
بكلّ زاويةٍ يا شامُ لي جهةٌ
نحوَ الحياة ِ ولي أمٌ بها وأبُ
نحو الأحبة ِ يبقى النبض ُ مُلتفتاً
" وكلّما ابتعدوا عني قد اقتربوا " ( ص 12 )
ولا ينسى شاعرنا أن يتغنّى بغرامه ِ بأرض العراق , ويأسى لما تعرّض له هذا الوطن من مآسٍ ونوائب كارثية , وهو أرض الخيرات التي استبيحت وبعث ذلك الحسرة في قلب الشاعر الذي انفطر حزناً على ما أصاب بلاد الرافدين من أوجاع لشعبه ِ وتراثه ِ الحضاري . وفي ذلك يقول من خلال قصيدة " أعيشك ِ يا عراق " ( ص 15 ) :
أعيشك ِ يا عراق بكلَّ موت ٍ
على الفقراء يعلنُهُ الشقاقُ
فيا أرض َ النخيل ِ وماء وجهي
أيُمسي للعدى فيك ِ اختراق ُ
فما شوكُ النخيل ِ سوى دواءٍ
لأوجاعي إذا ضاق الخناق ُ
فحزني أن أرى العربي ُّ يوماً
يعيش ُ ولا يحبُّكِ يا عراقُ
ويستمر الأستاذ مفيد قويقس في التغريد العابق والصادح بالوطنيات في قصيدة " لغة الوطن " ( ص 19 ) , باثّاً هواه بوطنه ِ وأهل هذا الوطن الذي ينتمي اليه بكل جوارحه ِ , ليشعر بالعزّة والكرامة ِ والإباء حيث يجري في هذه المعاني قلم شاعرنا على تقاسيم خواطره ِ ومواقع حسّهِ ونبضات وجدانه ِ , وكل ذلك برشاقة لفظية , وثراء في الدلالات . وها نحن نسمعه يقول في هذه القصيدة مخاطباً وطنه :
لكَ منّي يا موطني ما تشاء ُ
كلُّ أشيائي في هواك َ فداءُ
لم تَزَلْ في الضلوع ِ تنمو وتسمو
وطناً ترتقي اليه ِ السماء ُ
وطني يا أنين أهلي اليتامى
والحنينُ الذي يعي الأبناء ُ
وطني في هواك قنّعتُ وجهي
فبَدت عزّتي بهِ والإباءُ
وللكرمل الأشمّ نصيب ٌ في شعر هذا الديوان , إذ أنّ شاعرنا يتحدث بخطابه ِ الأنيق بقوافيه ِ الى الكرمل وهو متّشحٌ بالشوق والمحبة والحنين اليهِ , وفيه انبثاقٌ من شاعرية صحيحة وإحساس صادق . وفي هذا الصدد يقول في قصيدته التي كرّسها لهذا الموضوع بعنوان " يا كرملي "
( ص 29 ) :
يا كرملي يا بيت َ أهلي والهدى
لا غرو َ إِنْ أبقيتُ عندكَ معقلي
لا غرو أن أحيا سنيني عاشقاً
وأزفُّ روحي في نسيم ِ الكرمل ِ .
وينطلق شاعرنا في قصيدة " صرخات ... " ( ص 33 ) جاعلاً من كلِّ شيئٍ من انتمائهِ الشرقي العروبي نسمة من روحهِ , روح الوطنية والقومية العميقة الصحيحة , روح المحبة التي تتعشق كلَّ ظاهرة ٍ من ظاهرات الحياة العربية الأصيلة حيث يقول :
إني عشقتك ِ عزَّةً عربيةً
متوغِّلٌ في عشقها الوجدانُ
فمنَ المحيط الى الخليج ِ همومنا
جرحٌ يوثِّقُ بينها ولسانُ
عربيةٌ أفراحُنا عربية ٌ
أوجاعُنا وجميعنا عربان ُ
لم نفتقد ْ رغمَ الظلام ِ هويةً
بالعُمقِ تسري واسْمها الإنسانُ .
واللافت في أبيات هذه القصيدة أنَّ الإحساس عند شاعرنا انصهار كيان , فهو يكتب بخفق ِ قلبهِ وصفاء روحهِ , بنبضات عروقه ِ وآلامهِ بصدقهِ وإخلاصهِ وإيمانهِ ليجسِّد إحساسه الملتهب هذا بتصوير حالة من الوجد والشجن يتخللها أصداء واقعٍ مرير صادرة بصور عاطفية شجيّة مؤثّرة.
وفي قصيدة " أممي " ( ص 53 ) تتجلى النزعة الإنسانية والنظرة الأممية الشاملة بكونيتها لدى شاعرنا الذي يسجِّل في هذه القصيدة أروع كلمات التضامن الشخصي مع شعوب الأرض قاطبةّ دون تمييز , مُحبّاً للجميع , يحمل هم أولئك المعذبين والمستضعفين في الأرض , لامساً آلامهم , مطلقاً غضبه على مسببي هذه الأوضاع القاتمة في هذا الكون شاسع الأرجاء . وفي هذا الشأن يقول :
سجِّل على جبهةِ الدنيا أنا أُممي
سجِّل وهاكَ دمي فاكتُبْ بسَيْلِ دمي
سجِّل أنا من ْ تقلّاه الخنى زمناً
وحاصر َ الليلُ شمسي في ذُرى القممِ
أنا الفصيلُ الذي أمسى على مضض ٍ
ولستُ أحملُ غيرَ الجُرحِ والألمِ
ولستُ أملكُ بالدنيا سوى غضبي
والحبِ والجوع ِ والأشعار ِ والقيم ِ
سجِّل أحبُّ شعوب َ الأرضِ قاطبة ً
لا فرقَ عندي بين العُرب ِ والعَجَم ِ
وحينما نأتي لتناول غزليّات الأستاذ مفيد قويقس , نلمس الرومانسية الرصينة لديه بروحٍ كلاسيكية المعاني عذبة اللفاظ , جميلة النغمات في جَرْسِها وإيقاعها , فهو يُعبِّر عما يجيش في صدره ِ تجاه المحبوبة باندفاقٍ في الكلام السلس واللطيف والأنيق , مُحافظاً الّا تكون كلمات الحب مُدنّسة بإيحاءاتها وتداعياتها , وبالتالي نرى عنده وثبات جمالية رائعة تمتاز بالرونق التصويري البديع الذي يستهوي السامعين بعذوبته التعبيرية , وتدفّقه العاطفي الخالي كليّاً من الابتذال والمواربة , ذلك التدفّق الذي يؤثر في النفس تأثيراً شديداً نظراً لعفويته ِ ورشاقتهِ النغمية وإيقاعهِ الأخّاذ , وكل ذلك يبدو جليّاً في قصيدة " حقيقة " ( ص 56 ) حيث يقول :
اقولُ الحقيقة َ أزدادُ شوقاً
أموتُ وأفنى بعينيكِ عشقا
فراغُ المكان ِ يعمُّ المكان َ
وملءَ الحياةِ إذا غبتِ حقا
فَمَنْ ذا يحرّرُني من هواك ِ
فتَلقينَ مني كما منكِ ألقى
أقولُ الحقيقة َ ... إنَّ الرجالَ
عبيدُ النساءِ يمدّون عُنقا
جميعُ النساءِ ككُلِّ النساءِ
بحارٌ وبيدٌ وهمُّ ترقّى
الا كلُّ أنثى لها صَولةٌ
تنالُ بقدر ِ الغِوى ما استحقّا
وعند قراءتنا لقصيدة غزلية أخرى بعنوان " جرمٌ وشوكٌ " ( ص66 ) نلتقي بغزلٍ جديدٍ متجدِّد في جوهره ِ , رقيقٍ في عمقهِ وصدقهِ , بعيدٍ في آفاقه ِ , طيّبٍ في مذاقه ِ , فيهِ فيضٌ نفسيّ يتلهّف فيه الشاعر الى المحبوب المرتحل ِ عنهُ , ويضمُّهُ بمجمل كيانه ِ بديمومة من الشقاء والمعاناة للعاشق الولهان المحروم من السكينة الوادعة التي افتقدها بغياب أو ارتحال المحبوب عنه . والأبيات التالية من القصيدة تشكِّل إطاراً لهذه المشاعر :
جُرْمُ الهوى بالروح ِ معتقدٌ
وصبابةٌ لا تعرفُ المَللا
ما كان عجزاً إن قضى زمنٌ
وتبدّلَ المحبوب ُ وارتحلا
فالعجزُ إنْ تلقى البديل َ له
حقاّ , ولا ترضى به ِ بدلا
العشق ُ أشواك ُ الدروب ِ فما
من عاشق ٍ لمرادهِ وصلا ..
ومن الجدير بالإشارة عند ذكرنا لهذه البيات أنّه يحضرنا في هذا المقام بيتا عنترة بن شداد المشهوران اللذان تغنّت بهما السيّدة فيروز بألحان الأخوين رحباني , وطربنا لهما كما أطربنا ذوقياً الأستاذ مفيد قويقس بهذا الغزل الراقي الموازي لشعر الأفذاذ من الشعراء . أمّا البيتان اللذان أشرنا اليهما هنا لعنترة , فإنه يقول فيهما :
لوكان قلبي معي ما اخترتُ غيرَكمُ
ولا رضيتُ سواكُمْ في الهوى بدلا
لكّنَهُ راغبٌ في مَنْ يُعذّبُهُ
وليسَ يقبلُ لا لوماً ولا عذلا
كذلك من الفائدة بمكان أن نضيف الى ما ذكرناه آنفاً أنَّ البيت الأخير من قصيدة " جُرْمٌ وشوك" وهو :
العشقُ أشواك ُ الدروب ِ فما
من عاشقٍ لمرادهِ وصلا
- إن هذا البيت يجعلنا نستذكر ونستحضر بيتين قريبين له في المعنى وذلك من قصيدة نزار قباني " الى تلميذة " مما يثري المستودع الشعري الغزلي الجميل الراقي الذي يتلاقى فيه شاعرنا بالمغزى مع نزار قباني الذي يقول هناك :
الحبُّ ليسَ روايةً شرقيةً
بختامِها يتزَوَّجُ الأبطالُ
لكنّهُ الإبحارُ دونَ سفينة ٍ
وشعورُنا أنَّ الوصالَ اليهِ مُحالُ .
وهكذا نكتفي بهذا القدر من المقتطفات الشعرية من ديوان " الغضب " لشاعرنا الكريم مفيد قويقس , والتي تناولناها بالتعليق والتحليل حيث ظهر فيها بوضوح أنَّ شاعرنا قد سلك بموهبته ِ الشعرية المتألّقة وروعة الأداء والصياغة , والروح المشرقة الحضارية وذلك بنفَسٍ شعري أصيل و وببلاغة هي ثمرة الأفكار النيّرة , والعاطفة الرزينة العميقة بأبعادها الشعورية , وصورها المبتكرة بجماليتها وحيويتها الناطقة التي تعكس قدرات شاعرنا الخلّاقة واسعة الآفاق وبعيدة الأغوار .
فللأستاذ العزيز الشاعر مفيد قويقس أجمل التهاني بصدور هذا الديوان مع اصدق التحيات وأطيب التمنيات بدوام التوفيق وبالمزيد من الإبداع والعطاء .
