في الحالتين العربية الاسلامية ، والاروبية المسيحية :
من التأمل في الحالتين الثقافتين الحضاريتين الاوربية والعربية الاسلامية .. تساءلت عن السرعة التاريخية في التحول وفي التطور الذي جرى في الغرب، من القرون الوسطى الظلامية حتى اليوم ، هذا بغض النظر عن رأيي العرفاني الخاص حول مفهوم التطور، فاستنتجت التالي : وتفصيلاً في التساؤل : كيف نفسر هذا التحول الكبير للأوروبيين عبر قرن او قرن ونصف او قرنين فقط من الزمان ، من حضيض الجهل والتخلف في كل شيء الى التغيير المذهل في كل شيء؟!
فرأيت ان ذهنية التخلف والظلام في اوروبا الوسطى لم تكن هي ذهنية الشعوب الاروبية ، لم تكن متمخضة عن نزعات متجذرة في عقول ونفوس الكثرة ، وانما كانت فقط ذهنية الفئة المتحكمة والمتسلطة المتمثلة في ارباب الكنيسة والاقطاع ، حيث قامت بينهما علاقة مصلحة متبادلة ،وقد بنيت على الترهيب الديني من جهة وعلى التجهيل بالوقوف ضد كل تفكير يخالف احكام الكنيسة والاقطاع ، الى ان حدث التمرد من قبل الشعوب حيث انسجم بين مبادريه من مفكرين وعلماء وبين العامة على اساس وعي مشترك لضرورة ولاتجاه التغيير ..
فاذا نظرنا الى الحالة التاريخية العربية والاسلامية لوجدنا العكس ، اي ان نزعة الظلام والجهل والتخلف والخرافة الدينية، كانت ولا زالت متمكنة من نفوس الكثرة ، بينما من تمرد وثار ضدها هم قلة قليلة من متكلمين ومتفلسفين ومتصوفين ،حيث كانت ولا زالت تفصلهم عن الكثرة مسافات كبيرة من الفهم والتوجه ..
وهذا ما يفسر ان فيلسوف او مفكر واحد كبيكون او لوك في انجلترا ، او ككندرسيه او فولتر في فرنسا، او ككنط او هيغل في المانيا استطاعوا التأثير في مجتمعاتهم، بينما لم يستطع كل مفكرو المعتزلة وكل فلاسفة العرب ان يؤثروا حتى حينما وجد هؤلاء مساندة معينة من قبل الخلفاء والحكام كالمأمون والرشيد ، ذلك لغلبة نزعة الجهل والخرافة في اوساط الكثرة التي لازالت قائمة الى اليوم بنزعات التخلف والجهل والتعصب ، فلا زلنا طوائف ومذاهب تكفِّر بعضها جهرا وسرا ، وكل منها لا يزال يتعلق بحبال الغيب العدمي الجامد ،على حساب الواقع الناري المتحرك والمتغير ..
لا زلنا نقتل بعضنا على اساس الدين والمذهب وعلى خلفية شرف اللبوءة .. لا زال محمد وعلي وعائشة وزينب وسواهم من اولياء مذاهب اخرى، جمرات متقدات في اذهان الامة ، في حين انتهى دور الامبراطور المقدس في اليابان مثلاً واصبح رمزا تاريخيا ،حتى وهو لا يزال حيا في لحظة الواقع الراهن ،ونزلت الكنيسة بكل قديسيها وقدسيتها عن المسرح العام للذهنية الغربية العامة ، بينما لا زلنا نحمل الماضي في عقولنا وعلى كواهلنا في كل ساحات ومحطات التاريخ ..
لكن يوجد ايضا لاستمرار تخلفنا العقلي تفسيرات، منها : اولا كيفية تكون الذهنية العربية التاريخية في الاسلام ، تلك الذهنية التي استغلها الساسة العرب والغربيين في العصر القائم على السواء .. بينما امتاز الفكر الكنسي والاقطاعي الوسيط ببضع احكام دينية ساذجة سطحية وسخيفة وقامعة بفكرتي الخطيئة والجحيم ،حيث يمقتها الوجدان الشعبي العام ، فان الامر نفسه يختلف عند العرب والمسلمين ، اذ ان الفكر الاسلامي لم يكن سطحيا وساذجا وقامعا الى تلك الدرجة ، بل كان ولا زال غنيا بالافكار والمفاهيم التي تخدم العقيدة وتغذيها، وهي اكثر اقناعا لعقول الاتباع وبالتالي اسهل دخولا في وجداناتهم وفي ضمائرهم ، فاستطاع الفقهاء والبلغاء العرب المسلمين ان يزخرفوا العقيدة ويطعموها بألفاظ تحمل اشكال من المنطق الخطابي توهم بأنها علمية وعميقة وحقة .. وبينما نلاحظ ان الفكر المسيحي الاقطاعي الوسيط قام في الاساس على فكرة الترهيب بالعقاب وبالجحيم الابدي، ولم تكن فيه مقابل ذلك اغراءات للتائبين والصالحين ، نرى ان الفكر الاسلامي قام اكثر على فكرة الجنة حيث السبيل اليها مفتوح اكثر من سبيل الجحيم لكثرة وسائل التوبة وسهولتها .. ولذلك وحسب جدل الاضداد كقانون موضوعي ، نلاحظ كيف انبثق عن الظلام المسيحي الوسيط النقيض – اي من كبت في كل مجال الى انفتاح على كل مجال - بينما بقينا نحن في لون رمادي ، في وسطية وهمية وشكلية بفضل ذلك الفقيه البليغ المكثر كل تلك القرون .. وعليه نلاحظ على اساس جدل الاضداد نفسه كيف برزت حركة علمنة والحاد معاصرة في الدول العربية، خصوصا في مصر ، كرد فعل على الاخوانية وعلى الداعشية الجديدة .. فهل بدأت تتكون بذور عصر عربي تاريخي جديد ومختلف رغم محاولات التحبيط الاجنبي ..؟!
كميل فياض