لا يزول الاستيطان إلّا بزوال المقوّمات
راضي كريني
بعد المماطلات والمراوغات والتأجيل ومسرحيّة "عامونا"، شرعت قوّات كبيرة من الشرطة والجيش، ترافقها الجرّافات، بتنفيذ قرار محكمة العدل العليا، وقامت بهدم 9 بيوت في مستوطنة/مستعمرة "عوفرا"، قرب نابلس، المقامة على أراضٍ فلسطينيّة، بشكل غير قانونيّ!
وكأنّ باقي البيوت في هاتين المستعمرتين، وفي باقي المستعمرات، هي قانونيّة!
لم تهبط هذه المستعمرات الاحتلاليّة مِن السماء، ولم يقم فرد أو مجموعة مِن الأفراد المستعمِرين ببنائها؛ بل قامت نتيجة للدور الذي لعبته كافّة مؤسّسات وسلطات دولة الاحتلال (بما في ذلك السلطة القضائيّة)، وبتشجيع من رؤوس أموال أمريكيّة صهيونيّة، وبمؤازرة ومساندة الإدارات الأمريكيّة (الجمهوريّة والديمقراطيّة) المتتالية، وبتواطؤ وغمزات من الرجعيّة العربيّة.
كان الهدف من إقامة هذه المستعمرات، وما زال طرد وتهجير الشعب الفلسطينيّ من أراضيه، وفرض الهيمنة الرأسماليّة الاستعماريّة ،بأدوات صهيونيّة ورجعيّة عربيّة، على فلسطين، وعلى دول الشرق الأوسط.
بدأ التغلغل الاستيطانيّ في الأراضي الفلسطينيّة والسوريّة والمصريّة، بعد حرب حزيران 1967، واحتلال إسرائيل لسيناء المصريّة، ولمرتفعات هضبة الجولان السوريّة، وللأراضي الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة والقدس وقطاع غزّة، ثمّ قفز في الأراضي الفلسطينيّة قفزة نوعيّة بعد معاهدتَي "السلام": المصريّة الإسرائيليّة، والأردنيّة الإسرائيليّة، وترافقت الهجمة الاستيطانيّة بحروب، استباقيّة واستفزازيّة وتدميريّة، شنّتها إسرائيل على الفلسطينيّين واللبنانيّين، ومؤخّرا على سوريّة.
ولكن، تراجعَ الاستيطان الاستعماريّ أثناء انتفاضة الحجارة الفلسطينيّة، من سنة 1987- 1991، ثمّ عاد للتنفّس بعد اتفاقات أوسلو، بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، في سنة 1993، وأثناء الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية (انتفاضة الأقصى)، من سنة 2000 – 2005، وانتعش بعد توقيع اتّفاق الهدنة، بين شارون وعبّاس، في شرم الشيخ.
مِن الملاحظ أنّ الحركة الاستيطانيّة الاحتلاليّة تنشط وتزدهر في ظلّ "الهدوء" الفلسطينيّ؛ فكلّما مضت السلطة الفلسطيّنيّة في طريق المفاوضات والحلّ السياسيّ، تمادت المؤسّسات الاحتلاليّة في الاستيطان!
ثبت بالدليل القاطع أنّ الاستيطان شكّل عبئا أمنيّا ثقيلا على القيادات الإسرائيليّة وحلفائها، مِن استعمار ورجعيّة، أثناء حرب أكتوبر 1973، وأثناء الانتفاضتَين الفلسطينيّتين الأولى والثانيّة. كما أنّ الصواريخ العراقيّة التي سقطت على المدن الإسرائيليّة، في سنة 1991، والعمليّات الانتحاريّة الفلسطينيّة؛ قد دحضت المزاعم والمبرّرات الأمنيّة الإسرائيليّة للاستيطان.
لذلك، هناك قناعة دوليّة آخذة بالتطوّر والتنامي، والتأكّد من أنّ الاستيطان ومؤسّساته: الاقتصاديّة الرأسماليّة المتوحّشة، والسياسيّة الفاشيّة العالميّة والمحليّة، والرجعيّة العربيّة، و... هي المعطّلة للسلام ولإقامة الدولة الفلسطينيّة المستقلّة، وفقا لقرارات الشرعيّة الدوليّة، ومن أنّ اليمين الإسرائيليّ هو الحاكم في إسرائيل، وهو الرافض للحلّ السياسيّ، والفارض لسلام المنتصر والمهزوم والسيّد والعبد، وهو الذي ينهب الأرض الفلسطينيّة؛ كي يقوّض مقوّمات الاستقلال الفلسطينيّ ويخرّب العمليّة السلميّة.
من الواضح أنّ هناك مصلحة طرديّة بين الاستيطان واليمين الوسط الإسرائيليّ؛ فكلّما انتعش الاستيطان، ثبت ورسخ حكم اليمين الوسط في إسرائيل. ومن الواضح أنّه لولا المساعدات الحكوميّة للاستيطان؛ مِن تجريف وطرد ومصادرة واعتقال وسجن وقتل للفلسطينيّن، وتسهيلات وإعفاءات ضريبيّة ومنَح وقروض سهلة، وتوفير بُنية تحتيّة ضخمة للمستوطنين؛ لما ازدهر الاستيطان، ولكنّا شاهدنا اليوم، ليس فقط قلّة مِن الإثيويّين يعودون إلى إثيوبيا؛ بل الآلاف من القادمين الجدد اليهود يعودون مِن حيث أتوا؛ و"ما يبقى في الوادي غير حجاره" (اللاز للطاهر وطار).