د. حاتم عيد خوري
صبيحةَ ذات سبتٍ في مطلع السبعينات، كنتُ أقود سيارتي عائدا من فسوطه الى حيفا. مررتُ كالعادة بدير القاسي وسحماتا المهجرتين، ثم بترشيحا فمعليا في طريقي غربا الى نهاريا، فعكا وحيفا. لكن قبل ان اصل الى نهاريا بقليل، مررتُ قرب المدخل الرئيسي لِ"مشفى الجليل الغربي" الذي كان معروفا آنذاك باسم "مشفى نهاريا". لاحظتُ هناك رجلا مسنًّا، يعتمرُ حطّةً وعِقالا، واقفا على محطة الحافلات (الباصات)، ويؤشر بحركة خجولة مترددة، للسيارات الخصوصية المارة امام المحطة في طريقها غربا باتجاه نهاريا. بدا لي الامر عاديّا ومألوفا، فلم اعرْهُ اهتماما ولم استجب لحركة يد الرَجُل. لكني ما ان تذكرتُ أنَّ اليومَ هو يوم سبتٍ، ولا توجد مواصلات عامة، وبالتالي فلا جدوى من وقوف هذا الرجل العربي المُسِنّ امام محطة الباص، حتى تحركت قدمي اليمنى لا شعوريا، لتضغط بسرعة على فرامل السيارة.. وعند اول دوار، توجهتُ بسيارتي شرقا، عائدا الى مدخل المستشفى...
كان الرجُل ما زال يقف هناك. توقفتُ بجانبه داعيا إيّاه لدخول السيارة. فتحَ بابَ السيارة مترددا ثم دخل متثاقلا متعبًا، بعد ان حيّاني بكلمة "شالوم" ظنّا منه بانني يهودي. اجبتُه مبتسما وبلغة عربية واضحة: "صباح الانوار، اهلا وسهلا". قال لي: " واللهِ يا عمي، صار لي اكثر من ساعتين على المحطة، وصرت اقول لنفسي، مين بدو يوقّف لهاي الحطّة ولهذا العقال ؟!!". رأيتُه مشيرا بسبابته الى حطّتِه وعِقاله، فاجبته على الفور: "وحياة شرفي وشرفك، ما خلّاني اوقّفْ الا الحطة والعقال".
قصةُ الحطّة والعقال هذه استقرّت عميقا في ذاكرتي، وبقيت هناك مدة عقدٍ ونيّف، حتى حرّكَها من سباتِها نافضا عنها غبارَ السنين، حدثٌ انسانيٌّ مسَّ فؤادي. كان ذلك في لندن في مطلع شهر آب 1982، اي بعد مضي سنة كاملة على إقامتي هناك، مع اسرتي المؤلفة من زوجتي واولادنا الثلاثة: 13، 11 و 5 سنـوات. كنّا نسـكن في شـارع "اشـكوم" رقم 29 في حي ويمبلدون (Ashcome Road, Wimbledon) في بيت مستأجَرٍ من محاضرٍ جامعي انتُدِبَ للعمل خارج بريطانيا لسنة واحدة مع امكانية تمديد خدمته لسنتين اضافيتين.
كان البيت مريحا للغاية وقريبا جدا من المدرسة التي تعلم فيها اولادُنا سنةً دراسية كاملة، وتأقلموا مع مناخها التربوي ومستواها التعليمي الراقي، رغم الصعوبات التي تعرضوا لها، ككل الاولاد الاجانب، بما في ذلك الانكشاف على اللغة الانكليزية كلغة تدريس لكافة المواضيع. إزاء هذه التجربة الصعبة، ولكي نجنّب اولادَنا مرارةَ التأقلم من جديد في مدرسة اخرى، قرّرنا ابقاءَ اولادِنا في ذات المدرسة، سنتين إضافيتين اي ريثما انهي ابحاثي، ممّا يقتضي ان نبقى في ذات البيت الذي نسكنه ...لكن الرسالة التي وصلتنا من صاحب البيت، بشأن إضطراره للعودة الى بريطانيا، قد قلبت الوضعَ رأسا على عقب..
قرّرنا ان لا نساوم على مصلحة الاولاد مهما كانت الظروف، فباشرنا بعملية بحثٍ مكثفة عن بيتٍ او عن شقةٍ مناسبة في ذات الحارة. لكن سرعان ما اكتشفنا صعوبةَ تحقيق المطلب. فالبيوت المعروضة للإيجار قليلة، والانكى من هذا ان بعض الملّاكين كانوا يفرضون شروطا غريبة تقضي بعدم التاجير لاسرةٍ ذات اولاد صغار كاولادنا. كنتُ ادرك ان الايام تمر بسرعة وكأني في سباق مع الزمن. فالسنة الدراسية الجديدة للاولاد باتت قريبة جدا وواجباتي الاكاديمية اضحت لا تحتمل التاجيل. كنتُ اشعر بالتمزق بين التزاماتي الاكاديمية الضاغطة وبين واجبي كرب اسرة وكوالدٍ يعتبر مصلحة اولاده، بوصلةً لمسيرة حياته. فاخذتُ أتساءل: "ما العمل؟ وهل هناك من مخرج من هذه الازمة؟"
صباحَ ذات يومٍ وصلتُ الى قناعة باننا لن نجد مسكنا في حارتنا، وبالتالي سنكون مضطرين للسكن في حارة اخرى، ممّا سيستوجب نقل اولادنا الى مدرسة جديدة مع كل ما يترتب على ذلك من معاناة لهم ولنا. كدتُ استسلمُ لهذا الواقع المرير، لكنَّ رنين التلفون وحديث السيدة التي كانت على الطرف الاخر من الخط، قد بعثا في نفسي املا كِدتُ أفقِدُه. لقد قالت لي تلك السيدة، بعد ان قدمت نفسها باسم السيدة جزافالا(Mrs. Jasavala)، انها قد قرأت الاعلان الذي نشرناه في الحارة، وان لديها شقة للإيجار في شارع Hydon Park Road أي في الشارع المجاور لشارعنا.....لكن هذا الامل سرعان ما خبا من جديد عندما سمعتُها تسألني: "لكن كم عمر اولادك؟". لا ادري إذا كانت تلك السيدة قد لاحظت صمتي على الهاتف او سمعت تاتأةً في جوابي وانا اقول لها: " 13، 11 و5 سنوات". وإذ بي اسمعها تقول جذلةً: Marvelous, Excellent (ممتاز، رائع)، ثم تدعونا الى زيارة الشقة.....
بعد توقيع إتفاقية الإيجار، لم اتمالك إلا ان اسأل تلك السيدة عن سرّ حرصِها على تأجير شقتها الى عائلة مع اولاد صغار. قالت لي: "نحن كما ترانا عائلة هندية. هاجرنا الى لندن في مطلع الستينات. سعينا لإستئجار شقة نسكن فيها، فاصطدمنا بعائلةٍ انكليزية رفضت تأجيرَنا شقةً بسبب وجود إبننا الصغيرمعنا". توقفت تلك السيدة عن الكلام لحظة. رأيتُها تحاصرُ دموعا تراكمت في مآقيها، وكأنها عادت لتعيش من جديد تلك اللحظة المؤلمة، ثم تابعت حديثَها قائلة: "هم اعتبروا ابنَنا نقمةً ونحن نعتبرُ ابناءَكم نعمةً، لأنّنا قرّرْنا أن نجابه تلك الاساءة بمعروفٍ نُسْديه للآخَرين".