"حاملُ حبلَ مِشنقتِهِ"
قصّة قصيرةٌ:تأليف_شريف صعب-أبو سنان
لم يتصّل"فوفو"بأمّهِ في صبيحةِ ذلك اليوم،ولا بأحدٍ ممّا تبقّى من أصدقائهِ القلائل،الّذين كانوا يجاملونه...على مَضض.
أشرقت شمسُ ذلك النّهار الرّبيعيّ دافئةً وكأنّه يومٌ صيفيّ،ومَلأت الكون ببهائها...عكس ما كانت عليه في الأيام الأخيرة حيث كان الجوّ ماطرًا باردًا،هذا هو طقس الأرض المقدّسةِ فيومٌ ماطرٌ يليه يومٌ مشمسٌ صيفيّ. شربت الأرض ونباتاتها كؤوسَ مُدامها فسكرت وراحت تُنبت وتولدُ أصنافَ أزهارها وورودها،مزركشةً مُتعدّدةَ الألوان والأشكال...حمراء،صفراء وبنفسجيّةً، يا له من كونٍ عجيبٍ ساحرٍ...لو نظرنا إليهِ بعينِ الرّضا!
لم يتّصل"فوفو"في هذا اليوم كما أنّهُ لم يتّصل في اليومين السّابقينِ بأمّهِ الّتي تعيشُ في المدينةِ،بعيدًا عنهُ،بحكمِ ظروفها،فقالت"ربّما بسببِ الأحوالِ الجويّةِ...لم يتصل،ربّما لحقهُ شيئٌ من البردِ ،فهذا"شُباطٌ"قلّابٌ غلّابٌ،ربّما ركنَ إلى مدفئتهِ الكهربائيّةِ...رُبّما...رُبّما!
كانت والدتهُ تعملُ"رسولةً للنّوايا الحَسَنَةِ" مع جمعيّةٍ دوليّةٍ، فهي لم تعلم ولم يخطرُ على بالها أنّ"فوفو" قد يفعلُ فعلتهُ النّكراءَ الّتي لا يقترفها إلّا الكفرةُ الجاحِدون.كثيرًا ما حاولت أنْ تُدبّرَ شؤونهُ في الحياةِ،ولكنّها لم تفلح...فقد كانَ "غريب المزاجِ والعقليّةِ..."هكذا كانت تدّعي،دائمًا، حيثُ أمضى حياته كطاؤوسٍ مُتهوّر،مُتبرجٍ متَزيّنٍ،تعبقُ من حواشِيَه الرّوائحُ الباريسيّةُ الفاخرةُ،وكان يصرفُ كلّ ما كان يكسبهُ...على الملذّاتِ مُدلِّلًا نفْسَهُ قدرَ الإمكانِ،لاهِيًا في الباراتِ و"الكازينوهاتِ".
بقيَ عازِبًا عانِسًا،ما استطاعَ إليه سبيلًا متوهّمًا أنّ ذلك العِزّ سيبقى له إلى الأبدِ،متناسِيًا أن لكلّ شيئٍ نهايتُهُ،فقد أرادها حياةَ عزٍّ ولهوٍ انتقل فيها من غرامٍ إلى غرام حتّى نضبَ...كأسُ غرامهِ فتحوّلَ إلى جلمودٍ لا أحدَ"يكيلُ بصاعهِ" و"غيرَ واردٍ" في حِسابِ أيّ أُنثى على وجهِ الأرضِ، خصوصًا تيكَ الّلواتي كُنّ يُهرولنَ...إلى بيته...وهو في مقتبلِ العُمر،كذلكَ قلّ عددُ أصحابهِ الّذين"لَهَوْ" معه في عزّ شبابهِ!
أصبح في آخرِ أيّامه مُنعزلًا عن الجميعِ:عن أُمّه وعن اخوتهِ، عن أقاربه،عن أصدقائه وحتّى...عن نفسِهِ،يعيش في بوتقةٍ كسلحفاةٍ في وسطِ غابٍ...أو كَ"نيصٍ"في وكرِهِ، فالزّمنُ لا يرحمُ...حتّى الأنبياءَ!
لم تنزعج أمّهُ لعدم اتّصاله بها وقد علمت،في قرارة نفسها،أنه يُعاني بعضِ الشّذوذِ،خصوصًا، منذُ أن خطَبوا لهُ،قَسرًا،ابنةَ خالتهِ،خطوبةً لم تدمَ إلّا بضعةَ شهور،أقسمَ بعدها أن لا يتزوَّجَ إلى الأبدِ، وهي مشغولةٌ بقضاياها"العالميّةِ" ولم يَعُدْ،بالنّسبةِ لها،ذلك الإبن البارّ"فؤاد"صاحبُ الطّلعةِ البهيّةِ،فمنذُ أن لقّبوه"فوفو"ودرج اسمه على ألسِنةِ العامّة،تغيّرت عواطفُها وبرد حنانها..."فوفو"،اسمٌ أثارَ الجدَلَ حولهُ وشيئًا من التّهَكُّمِ!
صادَفْتُهُ وهو عائِدٌ إلى بيتهِ،في الشّارعِ،فكان يضحكُ كالمجنون كلّما قالَ كلمةً،حيَّيْتُهُ واستغربتُ لشدّةِ المرحِ الّذي كان يُبديهِ وللابتسامةِ العريضةِ الغريبة الّتي بدت،على غيرِ عادةٍ،على مُحيّاهُ.كانَ يحملُ سكّينًا يابانيَّا،على حدِّ قولهِ،يُلوّحُ بها كمنْ يتوعّدَ عَدُوًّا في ساحاتِ الوغى،سألتهُ:"لماذا هذا السّكين؟"أجابني:"لأُقطّعَ بها أوهامَ النّاسِ وضمائرَهم المسمومةَ،الحاقدةَ!"
لم أجهد نفسي في تحليل ما قالهُ لأنّهُ عُرفَ بتفاهةِ ما يقول!!استمرّ في مُزاحهِ مع هذا وذاكَ ممّن صادفهم،ثُمّ سمعتهُ يُودّعهم بكلمةِ"إلى الّلقاء سأرحلُ،سأرحلُ قريبًا...باي باي!"سألتُهُ :"إلى أينَ،أيُّها المُسافر...؟"أجابَ:"إلى مكانٍ بعيد...لعدّةِ سنين!"بعدها أدخلَ يدَهُ إلى جيبهِ وأخرج بعض قطعِ السّكاكر وراح يُوزّعها على الأطفالِ من حولهِ...ومن جيبهِ الآخرَ-بعضَ الشّواقلِ وألقى بها باتّجاههم، فتدافعوا لالتقاطها عن الأرضِ!
لم آخذ كلامهُ مأخذ الجدّ لأنّه كثيرًا ما تبجّحَ،في الماضي، بأنّهُ يعملُ مع شركاتٍ عالميّةٍ ويرمزُ بأنّهُ... سيتركَ البلادَ وسيرحل!
بعد ذلك استمرّ باتّجاه بيته وهو يردّدُ بصوتٍ عالٍ،و يتراقصُ كمنْ فقدَ رُشدَهُ..."النّاس أنجاس غير المال ما عدّوا..!"...ل"وديع الصّافي."
بعد بضعةِ أيّامٍ نهضتُ من فراشي على أصواتِ النّاس ،خرجتُ من البيت ورأيتُ العشَراتِ يهرعون باتّجاه بيت...."فوفو"بشكلٍ يُثيرُ الدّهشةَ.استفسرتُ الأمرَ فقيلَ لي إنّ فوفو قد وضع حدًّا لحياته.رُبّما، وإنّهُ قد وُجِدَ...،ميّتًا،في صالونِ بيتهِ.كان منزلهُ مُحاطًا بسورٍ عالٍ.
أعادني هذا الخبرُ في الحالِ إلى ذلك اليومِ الّذي التقيتهُ في الشّارعِ،وتذكّرتُ كلّ حركاتهِ وأقوالهِ وضحكاتهِ وخبرَ...رحلتهِ البعيدةِ...وأُغنيتهِ والسّكينَ"اليابانيّ"وكيف أنّهُ كان يُخاطبُ مَن حوله...كمن فقدّ أحاسيسَهُ البَشريّةَ والرّوحيّةَ وفكّرتُ كيف أنّ ذلك السّكينَ"اليابانيَّ"،لم يكُن إلّا الأداةَ الّتي اختار أن يُغادرَ على"حدِّها"مشوارهُ...الطّويل،مُترجِّلًا على عُنُقهِ!
لم تحضر أمّه الجنازةَ،فقد كانتْ مشغولةً...في أُمورها العالميّةِ ولم تذرفُ الدّموعَ على فِقدانهِ،فبالنّسبة لها،مات "فوفو"ميتَةً استحقّها ولم يكُن الميّت ابنها "فؤاد"الّذي ربّتهُ بدمِّ قلبها وبعرقِ جبينها ولبّتْهُ بترياقِ...ثديِها!!
بعد شهرٍ صادفتُ في نفسِ الشّارعِ"جهادَ السّكران"الّذي يعيشُ لوحدهِ منذ أربعين عامًا،بعد أن طردتهُ طليقتُهُ من البَيتِ. وقد لفَّ حبلَ-غسيلٍ على معصمِ يدهِ اليُسرى فتجاهلتُهُ وتابعت سَيري، دونَ أن أنبسَ ببنتِ شفةٍ خوفًا أن يكونَ ذلكَ الحبلُ....حبلًا يابانيًا!!