بيت الحكمة
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
أهمية الترجمة وضرورتها، منذ القدم وحتّى يومنا هذا، أمرٌ لا تنتطح فيه عنزتان. تُعتبر هذه العملية الفكرية المعقّدة، أو كما تُسمّى أيضا بالفن تارةً وبالعلم تارةً أخرى، من أهم الوسائل لنشر العلم والمعرفة والتلاقح لدى شعوب العالم، حتّى في عصر العولمة هذا. كما أنّها تساهم مساهمة جوهرية في بلورة الحضارة الإنسانية العالمية. الديانة المسيحية، أكثر الأديان السماوية انتشارًا في العالَم، هي في الواقع، غدت كذلك نتيجة لعملية ترجمة العهد الجديد، إلى جلّ لغات شعوب المعمورة ولهجاتها.
كانت للترجمة اليد الطولى في إثراء اللغة العربية والأدب العربي في الماضي الغابر، وفي العصر الحاضر الراهن على حدٍّ سواء. كانت الغالبية العظمى من الترجمات إلى اللغة العربية في العصر العباسي من اللغة اليونانية. بالإضافة إلى ذلك، فقد ترجم العرب أيضاً من اللغة الفهلوية (الفارسية الوسطى) والسنسكريتية، لغة الليتورجيا الهندوسية الأساسية. امتدّت مراكز الترجمة إلى مدن كثيرة مثل إدسّا في أنطاكية في سوريا، جنديشاپور في فارس، وحرّان في بلاد الهلال الخصيب، والإسكندرية في مصر. لم يصلنا الكثيرُ عن الترجمة في العصر الأموي في دمشق، حيث تمّت في تلك الحقبة ترجمات من اللغة السريانية إلى اللغة العربية. ويحكى أن الأمير، خالدا بن يزيد المتوفّى عام ٤٠٧، قد نقل بعض المؤلفات الفلكية والطبية والكيميائية إلى العربية. ويبدو أن أوّل مؤلَّف طبي ترجم إلى العربية كان كناش هارون القس بن أعين عام ٤٨٦م، وقام بالترجمة الطبيب البصري المعروف ماسر جويه.
نما الاهتمام بالعلوم الأجنبية وزاد بمرور الوقت، حتّى بلغ أوجَه في القرن التاسع للميلاد في عهد الخليفة العباسي المعروف المأمون (٨١٣-٨٣٣). في تلك العصور اهتم الخلفاء بالعلم والمعرفة كثيرًا، ولا يرى المرء ما يشبه ذلك في العالم العربي اليوم، الذي يعدّ اثنتين وعشرين دولة. وكان مؤسس مدينة السلام، بغداد، الخليفة المنصور (٧٥٤-٧٧٥) مولعًا بجمع المخطوطات اليونانية، وأحضر إليه الطبيب السرياني ذائع الصيت، جورجي أو جرجيس بختيشوع المتوفّى عام ٧٧١ للعمل في بلاطه. ويحيى ابن بَطْريق، على سبيل المثال، قد ترجم العديد من مؤلفات الإغريقيين أمثال، چالينوس وأبوقراط وبطليموس وإقليدس.
لكن في مضمار ازدهار الترجمة يحتلّ الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد (٧٨٦-٨٣٣) المرتبة الأولى دون أي منازع، فهذا الخليفة قد أقام "بيت الحكمة" حسن السمعة في تاريخ الحضارة العربية. وفي رحاب ذلك البيت الشهير، بل قل أكاديمية أو جامعة، عمل مكتب جادّ وهام في مجال الترجمة. ولا بد من التنويه إلى أن نواة هذا البيت الطيب العريق كانت خِزانة كتب زمن أبي جعفر المنصور ٧١٢-٧٧٥م، ثم نمت وتطورت واتّسعت أيام هارون الرشيد ٧٨٦-٨٠٨م والمأمون ٨١٣-٨٣٣م. وقد احتذى بيت الحكمة في عمله ونظامه بالمدارس الفارسية والمسيحية الشرقية وعمل فيه خيرة العلماء وصفوة المترجمين، أمثال أبناء موسى بن شاكر الثلاثة، محمد وأحمد والحسن، وسهل بن هارون وسعيد بن هارون ويوحنا بن البطريق وأبي جعفر محمد الخوارزمي . وقد أشرف على هذا المجهود الجماعي والمتخصّص يوحنا بن ماسويه، وقد دعم الخلفاء هذا النشاط العلميّ بكل تشجيع وسخاء. ترجمت مؤلفات عديدة في الطب والفلسفة والجغرافيا والرياضيات والفلك إلى العربية. مراكز علمية مثيلة أقيمت في القرن العاشر في كل من الأزهر في القاهرة وفي قرطبة في الأندلس، واعتبرت جامعة قرطبة في القرنين العاشر والحادي عشر أهم مركز علمي في العالم.
ومن البديهي أن حركة الترجمة تلك قد واجهت مشاكلَ وصعوباتٍ عميقة وشائكة، هناك لغتان مختلفتان كل الاختلاف، اليونانية والعربية، حضارتان متباعدتان. لذلك فإن إيجاد العبارات والمصطلحات الملائمة، كان دونه خرط القتاد في المرحلة الأولى للترجمة. ومن الجلي، أن الترجمة الناجحة تقوم عادةً على دعائمَ أساسية ثلاث وهي: معرفة لغة الأصل، أي اللغة المترجم منها معرفة شبه تامّة، معرفة اللغة المترجم إليها معرفة شبه تامّة علمًا وعملاً أي من الناحيتين النظرية والعملية. والدعيمة الثالثة، دراية كافية بموضوع المادّة المترجمة، فعلى سبيل المثال، لا يُعقل أن يترجم شخص لا يعرف شيئا في الفيزياء مؤلّفا في هذا المادة العلمية. على كل حال، إن ترجمة الشعر تبقى، على ما يبدو، أعسر المهامّ حتّى الآن رغم التقدم التقني الحديث فيما يُسمّى بالترجمة الآلية. والجدير بالذكر أن قسماً كبيراً من المترجمين، أو الناقلين كما كانوا يدعون آنذاك، كانوا من السريان أي أن لغة أمّهم كانت السريانية وليست العربية المترجم إليها، وهذه الحقيقة كانت مصدر إعاقة في سبيل عملية الترجمة الناجحة إذ أنّ عربيتهم لم ترق إلى المستوى المنشود، على الأقلّ، في المراحل الأولى. ويبدو أن أولائك المترجمين قد قاموا أولاً بالنقل من اليونانية إلى لغتهم السريانية ومن ثمّ إلى العربية، ومن نافلة القول أن الهوة تتّسع كلما كانت الترجمة غير مباشرة.
في أعقاب المجهودات الأولى في الترجمة والعملية التراكمية، انبثقت مفردات ومصطلحات جديدة وآلية معيّنة. وعليه ففي القرن التاسع للميلاد ترسّخ علم أو فن الترجمة في عهد العملاقين في هذا المجال، حُنيْن بن اسحق (٨٠٩-٨٧٧) وثابت بن قُرّة المتوفّى عام ٩٠١. ترأّس حُنين، الذي كان ذا علم واسع بالعربية والسريانية واليونانية، مكتبَ الترجمة المذكور في بيت الحكمة. يقال، والله أعلم، فلا بدّ من المبالغة، بأن حُنينا قد تلقى مكافأة على كل أثر ترجمه إلى العربية وزنه ذهبًا. نمت المعارف والعلوم، ترعرعت وتقدّمت إثر اختراع الورق في الصين في القرن الثامن الميلادي. وهكذا أُسّست المكتبات الخاصّة والعامّة والنوادي العلمية، التي كانت تُعرف باسم "المجالس" في أرجاء الامبراطورية العربية. من هذه المراكز العلمية، قرطبة وطليطلة وإشبيليا والقيروان والبصرة والكوفة وبغداد ودمشق والقاهرة وبخارى وحلب.
وكانت هناك طريقتان أساسيّتان في الترجمة، كما هو عليه الحال، في القرن الحادي والعشرين. الطريقة الأولى نحت منحى ما يسمّى بالعربية بالترجمة الحرفية أي ترجمة كل لفظة بلفظة. وغنيّ عن التنويه، بأن مثل هذا المنحى قد يكون نافعًا في بعض الحالات مثل إيجاد مقابل معيّن في عالم المحسوسات والأفكار العامّة، ولكن بصورة إجمالية فهو ذو نواقصَ كثيرة. والأسلوب الآخر في الترجمة، الذي اعتمده حنين بن اسحق ومدرسته، هو ما يمكن تسميتُه بترجمة المحتوى أي المعنى لا المبنى. هذه المدرسة عمدت إلى فهم الجملة كأصغر وحدة لغوية ثم ترجمتها. إنّ الصعوبة الكأداء التي اعترضت سبيل المترجمين كانت، والحقّ يقال، إيجاد بدائل للمصطلحات اليونانية التي تعبّر عن أفكار ومفاهيم لم يكن لها وجود في العربية في ذلك العصر. ومن ثمرة عمل المترجمين واللغويين بتشجيع الخلفاء ودعمهم ماديًا كان إثراء لغة الضاد وجعلها قادرة عن طريق الاشتقاق المتطوّر وقَبول بعض الدخيل، لأن تصبح لغة علم وثقافة وفكر. بمرور الأيام حلّت الكلمات العربية في كثير من الحالات محلَّ الألفاظ اليونانية، فعلى سبيل المثال، المصطلحان "علم الحساب" و"المقولة" حلا محلّ "أرثماتيقيه" و" قاطيچوريه". ومن الكلمات اليونانية الأصل، التي لم تحظ ببدائل عربية: الموسيقى والجغرافيا والفلسفة
في القرن العاشر تبلور ما يسمّى بالعلوم العربية إزاء العلوم الأجنبية أو العلوم العقلية أو الحِكمية. لقد أطلق على تلك العلوم العربية العلوم النقلية أو الشرعية وضمّت العلوم الدينية واللغوية مثل الفقه والكلام والصرف والبيان والأدب والشعر. اشتملت العلوم العقلية على العديد من أنماط المعرفة مثل الطب والعلوم الطبيعية والموسيقى والفلسفة والفلك والرياضيات. وهناك، كما هو معروف، تصنيفات أخرى متعدّدة للعلوم في الحضارة العربية، منها تقسيمات الفيلسوف العربي الفارابي المتوفّى عام ٩٥٠ إلى خمس مجموعات، تتفرّع كلّ واحدة منها إلى فروع. تضمّ هذه المجموعات ما يلي: العلوم اللغوية وفيها سبعة فروع، العلوم الدينية والطبيعية وفيها ثمانية أقسام، العلوم الرياضية وفيها سبعة فروع، علم المنطق ذو الثمانية أقسام. بعد ذلك بعدّة عقود قسّم الفيلسوف الرئيس ابن سينا المتوفّى عام ١٠٣٧م العلوم إلى مجوعتين فقط، نظرية وعملية. ولا يحيد المرء عن جادّة الصواب عند القول إن أساس الحضارة العربية كان تلك الثقافة الهلينية التي تُرجمت إلى لغة الضاد. ويمكن تلخيص سبل دخول الثقافة الهلينية إلى العرب بما يلي:
١) السريان النساطرة الذين كانوا أوائل المترجمين من السريانية واليونانية إلى العربية.
٢) السريان الأرثوذوكس في الكنيسة الأنطاكية، أصحاب الفكر الفلسفي الديني في الفكر العربي.
٣) مدرستا جنديسابور ونيسابور والفرس الزرداشتيون الذين طعّموا الفلسفة الإغريقية بما كان لديهم من تراث فارسي وآخرَ هندي..
٤) الصابئة/المندائيون في مدينة حرّان.
باختصار، بوسعنا أن نقرر، دون أي ريب، أن ثقافة الإغريق والهلينية دخلت الفكر العربي عبر اللغة السريانية ومن العربية إلى العبرية واللاتينية في الأندلس فلغات أوروبا، هذه هي حضارة الجنس البشري، كل طرف يسعى في بناء مدماك في هذا الصرح الإنساني المهيب!