دائما عندما نقول ان الاديان من صنع البشر ، يتوارد السؤال حالا : طيب من خلق العالم ؟
وكلما كانت ادلتك على بشرية الديانات اقوى ، كلما ازداد الاحراج امام السؤال : من خلق او كيف جاء العالم ؟ وازدادت الحاجة اكثر الى جواب ..
من جهتي، وعلى مدى السنوات الماضية من عمر اهتمامي بالموضوع حاولت تقديم اجابة عن هذا السؤال ، وقدمت اكثر من حجة عقلية ورؤية عرفانية عبر مقالات عدة حول مسألة مجيء العالم ، ومن المفيد تجديد النظر في الموضوع .. باختصار نحن وان استبعدنا الخلق كما تحدثت الاديان السماوية لاختلافها مع انفسها ومع بعضها ،ومع منطق العلم على السواء ، لا نستطيع نفي وعي او عقل ما من الوجود سابق او مرافق لوجود ولبناء الكائنات ، فأثر العقل اوضح واقوى من فكرة النشوء والتطور بمجرد التكيف والمصادفة ، هذا من الناحية المنطقية العقلية ، ومن الناحية الفطرية والروحية والاشراقية على السواء يصح ذلك ايضا .. ففينا روح يثبت ذاته حدسيا لدى المؤمنين، ويثبت ذاته وجوديا لدى المتصوفين والمستنيرين بالتجربة المباشرة ..
لكن وجود عقل ما ووجود روح ليس دليلا على وجود اله خالق ، اذ ان الروح بطبيعته غير مخلوق من حيث هو جوهر ازلي بسيط لا ينقسم وهو حي بذاته .. من هنا لو فرضنا صحة وجود اله شخصي فوجوده يكون تجسيد ما انعكاسي لوجود الروح ، وهكذا تكون الالوهة سابقة في الوجود على وجود الاله ،فهي امه بتعبير تشبيهي مجازي ..
هذا ان وجد الاله فرضا .. لكن بكل الاحوال ليس هو كاله الديانات السماوية لتناقضاته، وهو اقرب الى الالهة الأم "كالي" العمياء، التي تنجب اولادها ثم تدوسهم بقدميها تقتلهم ثم تحييهم من جديد وهكذا ..فتناقضاتها شبيهة بتناقضات الكون وقوانينه بين بناء وهدم دون حساب لوجودنا البشري ..
لو قارنا بين مصمم الكون - فرضا - وبين مهندس بشري لمقاربة مسألة الخلق للعقل، ولو تصورنا ان خريطة بناء العالم هي الكتب الدينية ، لوجدنا هذه الكتب لا تتطابق ، بل هي في مستوى متخلف جدا عن الكون ،كتخلف رسم اطفال عن صور كاميرا .. في حين لا تجد تقريبا اي اختلاف بين خريطة المهندس البشري وبين البناء بحيث ترى كل شيء ظاهر في الخريطة موجود في البناء .. فهل يصح ان تكون الرسالات الدينية خريطة للعالم ولنشوئه ..؟ رغم ان المؤيدين لفكرة الخلق يتأولون بالقول ان الله لا يريد تحميلنا فوق طاقتنا بوضع كل تفاصيل خريطة الخلق ، لكننا نعلم ان الكتب الدينية جاءت بعد مجيء العالم لا قبله ، وقد اجريت عليها تعديلات مع مرور الوقت ..
ان الفكرة الاكثر منطقية لوجود العالم هي فكرة الفيض من طاقة ازلية كوعي محض مطلق ، خصوصا وان لدينا في الكون والطبيعة امثلة قياسية ورمزية تحمل فكرة الفيض العفوي للخلق ، كالشمس حيث تقوم وراء تناوب الفصول ونظامها الدوري ، دون ارادة وتصميم سابق ، بل بمجرد فيض طاقتها حرارة وضوء ..
هكذا هي الطاقة الازلية كوعي محض مطلق ازاء الاكوان والكائنات ، وان افتقدنا لدليل مباشر على وجود اله مفارق، فان لوجود الوعي المحض دليل مباشر في كل شيء وخلف كل شيء ، خصوصا في الانسان ، ويتجلى هذا عند وصول التفكير العقلي اقصاه وتوقفه في هذا الوعي ذاته ..
طبعا هذا لن يلغي الديانات وسوف تستمر على علاتها ، وستستمر عبادة الغيب وسيستمر كل اتباع دين على احتكارهم للمطلق ، ويكون لكل مذهب مطلقه وتعصبه وتكفيره للآخرين ، وستستمر المذابح ( المقدسة ) كذلك سيستمر فيها جانبا من الجمال والجلال والهيبة والروحانية وحب الخير والطمأنينة ،وكلها انعكاس لذلك الروح العظيم فيهم وفي كل شيء ..