د. حاتم عيد خوري
إنتهز عصام مناسبةَ عيد ميلاد حليمة العشرين، ليُعرب عن رغبته بزيارة بيت أهلها والتعرف عليهم. لم تستغرب حليمة مبادرة عصام هذه، إذ طالما لاحظت مدى إهتمامه بها وتودّده إليها وانفتاحه امامها، مما جعلها تعرف عنه الكثير من أخباره الخاصة: لقد عرفت انه من مواليد سنة 1920، أي أنه اكبر منها بست سنوات، وانه ابن لعائلة غزّيةٍ عريقة، وانه ما أن أنهى دراسته في جامعة القاهرة في مجال إدارة الاعمال سنة 1942، حتى استقدمته إدارةُ حكومةِ الانتداب البريطاني على فلسطين، ليرئِس الدائرةَ المسؤولة عن البضائع المستوردة، في قسم الجمارك في ميناء حيفا.
كانت امينة مُقلَّةً جدا في التحدث عن نفسها. لكنها رغم ذلك، كانت واثقةً بانّ عصام يعرف عنها أمورا كثيرة، من خلال ملفّها في العمل، سيما وان عصام كان هو الذي قابلَها وقبِلَها للعمل في هذا المكتب الذي يرئسه. وبالتالي فلا شك ان عصام يعرف انها خريجة مدرسة راهبات المحبة في حيفا ، وانها تجيد ثلاث لغات: العربية والانكليزية والفرنسية، وانها تسكن في شارع درج الامير المؤدي الى شارع ستانتون(شيفات تسيون حاليا)، وان والدها اسمه مصطفى رشيد عبد المعين. لكنه (اي عصام) ربما لا يعرف انها يتيمة الابوين منذ ان كانت في الثانية عشرة من عمرها.
انتهزت حليمة اول فرصة مناسبة، لتروي لعصام ان والدها الذي انضم الى صفوف الثوار سنة 1936، قد استشهد مع بعض رفاقه الوطنيين المناضلين في كمين نصبتْه لهم ثلةٌ من العساكر الانجليز، في موقع بين جنين ونابلس، كما ان هولَ ذلك المصاب قد زاد من تدهور صحةِ والدتِها المتدهورة اصلا، ثم ما لبث ان قضى عليها سنة 1938، تاركا حليمة في عهدة جدّتها وجدّها الحاج ابو مصطفى، اللذين قرّرا مرغَمين بسبب وضعهما الصحي المتدهور، ان يوفرا لها اجواء افضل من الاجواء الكئيبة التي هيمنت على بيتهما منذ ان ثكلا ابنهما مصطفى وزوجته، فقررا ان يضعاها في رعاية دير راهبات الزَوَرَة بقرب شاطيء ابو نصّور(حاليا هَحوف هَشاكِت) والمستشفى الحكومي (حاليا مستشفى رمبام) لمدة سنتين، تمهيدا لإلحاقها فيما بعد، بمدرسة راهبات المحبة الثانوية في شارع أللَنْبي،مقابل مدرسة الفرير، ثم عودتها للسكنى مع جدّيها.
سألها عصام: "ولماذا الى تلك المدرسة بالذات؟".إستغربت امينة سؤالَه، لكنَّ عين الرضا تبقى "عن كل عيبٍ كليلة" فحاولت ان تجد له عذرا بانه ما زال لا يعرف حيفا على حقيقتها، فقالت له بجدّية مقصودة: "ان جدي الحاج ابو مصطفى يكنُّ احتراما خاصا وتقديرا كبيرا للمؤسسات التربوية الكنسية في حيفا، بصورة عامة ولمدارس الراهبات بصورة خاصة". توقفت حليمة عن الحديث لحظة، ربما لتعطي لكلماتِها فرصةَ الاستقرارِ عميقا في نفس عصام، ثم أضافت بلهجة لا تخلو من حنينٍ مبطَّنٍ باعتزاز: "لَكَم كانت فرحة جدي كبيرةً وهو يراني اتخرج بنجاح من تلك المدرسة". حديث امينة عن جدّها، جعل عصاما يتوق للتعرف عليه..
تكررت زيارات عصام الى بيت الحاج ابو مصطفى، فمن زياراتٍ فردية الى عائلية ومنها الى قراءة الفاتحة وكتْبِ كتابٍ وزواجٍ على سنة الله ورسوله، وحفلٍ بهيج إحتضن الاهلين والاقارب في غزة وحيفا..
إستقر العروسان الغضّان في شقة شمالية مستاجَرة في الطابق السادس من عمارة آل سلام القائمة عند نقطة تلاقي شارع ستانتون(حاليا شيفات تسيون) وشارع الملك جورج الخامس(حاليا هَجيْبوريم)، وعندما وقفا بعد عودتهما من شهر العسل، في اواخر صيف 1946 ، على شرفة تلك الشقة تراءت لهما حيفا باجمل صورها. فبدا امامهما شارع يافا وشارع الملوك والميناء وبحرٌ يحتضنه الخليج، وفنارُ عكا وراسُ الناقورة...وعلى يمينهما ساحةُ الحناطير وجامع الجرينة وبرج الساعة وجامع الاستقلال وحارة الكنائس..وعلى يسارهما المركزُ التجاري الجديد وحيُّ الالمانية ومنطقة الموارس وحيّ المحطة والمشارف الغربية لحيفا حيث الكرمل يُدلّي اقدامه في البحر... فشعرا بسعادة غامرة نابعة من املٍ دافق بمستقبل زاهر مبتسم فبادلاه ابتسامةً عريضة ...
لكنها "يا فرحة ما طالت"، فالاوضاع الامنية اخذت بالتوتر تدريجيا، ثم ما لبثت ان تدهورت، لتشهد حيفا التحتا، اي الأحياء العربية من المدينة، في النصف الثاني من سنة 1947، نيرانا تُطلق وقناصةً تتصيد وبراميلَ بارود تُدحرج لتتفجر بين المدنيين، وضحايا تتساقط ومنسوبَ توتر يرتفع يوميا فيبعث في نفوس المواطنين هلعا جعل البعضَ يغادرُ المدينةَ على امل العودة اليها "بس تهدأ الاوضاع". هذا التوجه رفضه عصام وحليمة، من منطلقٍ وطنيٍّ معزَّزٍ بموقف الحاج ابو مصطفى، الذي كثيرا ما كان يردّد مقولة "الموت ولا الغربة". ولكن عندما راح الحاج وزوجتُه ضحيةَ انفجارٍ داهمَهما وهما في طريقهما من السوق الى بيتهما، اخذ عصام وحليمة يعيدان النظر في موقفهما، خصوصا بعد ان تعذّر عليهما الوصولُ بأمانٍ الى مكان عملهما في جمارك الميناء، فكادا ان يستسلما للواقع المرّ، لكنهما ما لبثا ان رفضا من جديد فكرة مغادرة حيفا. غير ان وضع حليمة الحامل في شهرها السابع، وما يتطلبه حاليا من متابعةٍ طبية، ومستقبلا من مكانٍ آمنٍ للولادة كالمستشفى الحكومي الذي اصبح الوصول اليه صعبا، قد حسمت كلُّها الموقف ورجَّحت الكفة لصالح مغادرة حيفا الى بيروت بصورة عاجلة.
جمعا اوراقَهما الثبوتية ومدخراتهما القليلة من اوراق النقد الفلسطينية والمصاغ، في محفظة جلدية غزاوية الصنع، ووضعأ بعض الملابس التي إختارتها حليمة لكل منهما، في شنطة واحدة متوسطة الحجم. تأبط عصام المحفظة بيده اليسرى وحمل شنطة الملابس باليد الاخرى، تاركا لحليمة مهمة إقفال باب البيت. دارت بهما الدنيا، وهما يسمعان دورة المفتاح في سُكَّرَة الباب. وعندما استلّت حليمة المفتاحَ من السكّرة، لتضعه في جزدانها، تأملته جيدا وكأنها تسأله: "أتعودُ يوما الى هذه السكرة؟"، ففاضت عيناها بالدموع...وكادت تتعثر في مشيتها الى جانب عصام وهما يقطعان المسافة القصيرة التي تفصل بين عمارة آل سلام وبوابة الميناء، وصولا الى القارب الذي ابحر بهما وبعشرات النازحين الاخرين، عبر مياه خليج حيفا، الى ميناء عكا حيث استقلوا حافلات حملتهم عن طريق راس الناقورة الى صور..
اراد عصام ان يتابعا سفرهما مباشرة الى صيدا فبيروت، إلّا انه لاحظ ان حليمة كانت منهكة للغاية. كانت تشكو من حركة نشطة للجنين تفوق ما تتوقعه الحامل، كما بدت كأنها في شهرها التاسع وليس السابع...إزاء هذا الوضع، قرّرا البقاءَ في صور حتى مساء اليوم التالي، فاقاما في فندق مشرف على البحر، ذكرهما بحيفا فحرك في نفسيهما شجونا تحرق الاكباد..هذه المشاعر استمرت ترافقهم حتى بعد ان غادرا الفندق، مستقلِّين سيارةَ أجرة في طريقهم الى بيروت، مرورا بصيدا. كان عصام يجلس في المقعد الامامي الى يمين السائق، بينما كانت حليمة تجلس في المقعد الخلفي وراء السائق. لم يسألا السائق عن اسمه، لكنه بادر من مبدأ "التعارف سُنَّة" كما قال، بتقديم نفسه باسم ماجد ابو مروان الحمويّ. كان الشارع مزدحما بالسيارات ويكاد يكون معتما، باستثناء اضواء السيارات المسافرة في الاتجاه المعاكس، سيما عندما اصبحت السيارة على المشارف الجنوبية لبيروت، واصبح السير مكتظا. كانت الأضواء تلمع في عينيّ ماجد فتُغشي بصرَه المرة تلو الاخرى،. ولعلّ هذا هو السبب الذي فوّت على ماجد فرصة تجنب سيارة نقليات كبيرة، داهمت سيارتَه من الجهة اليمنى الامامية فكان حادث طرقٍ مروّع...
فماذا حدث لكلٍ من عصام وحليمة والجنين الذي تحمله في أحشائها؟ عن كل ذلك ساتحدث في الاسبوع القادم.