خسرت الست بديعة معركتَها مع المرض اللعين، فتوفيت سنة 1976 بين يدي حليمة وجانيت اللتين بكَتاها بكاء مرا. شعرت حليمة ان عالمها قد إنهار مرة اخرى فوق رأسها. فها هي تعود الى المربع الاول الذي كانت فيه قبل نحو ثلاثة عقود: يتمٌ وترملٌ وثكلٌ وتشردٌ وعوزٌ مادي... لقد كانت تتساءل بينها وبين نفسها: "ما العمل؟ اين سأسكن؟ ومن يقبل ان يشغّلني الان وقد اصبحتُ في الخمسين من عمرى، ولا مهنة لي؟ وهل سانجح يوما في تحقيق امنيتي بلقاء بناتي؟". هذه التساؤلات التي بقيت في ضمير حليمة، ولم تُفصح عنها لجانيت، جعلت حليمة تبدو واجمةً متعبة اثناء جلوسها في بيت العزاء. غير ان جانيت كانت تدرك بحدسِها ما يختلج في قلب حليمة، فارادت ان تخفَّف عنها، لكنها امتنعت عن مفاتحتها بالموضوع اثناء فترة تقبّل التعازي.
إنتهزت جانيت اقربَ فرصة بعد فترة بيت العزاء، لتقول لحليمة: "ستسافرين معي الى مونتريال". نزل هذا البلاغ نزول الصاعقة على راس حليمة، فردّت على الفور وبصورة قاطعة بانها لن تقطع بنفسها آخرَ خيطِ أملٍ بالعثور على بناتها، وبالتالي فلن تترك لبنان قبل ان تلتقيهن...سكتت جانيت مرحليا، لكنها لم تستسلم ولم ترضخ لرفض حليمة. كانت جانيت تدرك ان حليمة تتحدث من قلب الام المسكونة دائما بمحبتها لبناتها وابنائها وليس من عقل الانسان الواقعي المسؤول الذي ينبغي ان يعرف ان تمسّكَها بامل العثور على بناتها بعد 28 سنة، بات امرا عبثيا...انتظرت جانيت حتى صباح اليوم التالي، فاستغلت لحظةَ صفاءٍ توفرُّها عادةً، جلسةُ قهوةِ الصباح، لتُعيدَ الكَرَّةَ مرة اخرى، مجنِّدةً إصرارها وكلَّ ما حباها به الله من حجةِ إقناعٍ . هذه الحُجَّة ما لبثت أن دكّت اسوار الرفض لدى حليمة فابدت ليونةً في موقفها، فموافقةً مغتسلةً بالدموع، على السفر مع جانيت الى مونتريال...
كانت حليمة وهي تتسلق مع جانيت، في مطار بيروت، درجَ السلم المؤدي الى طائرة مونتريال، تشعر وكانها تُهَجَّر قسرا للمرة الثانية، فبدت كمن يكتب فصلا جديدا من فصول التغريبة الفلسطينية. فالطائرة و"الميناء الجوي" اللذان سيشهدان مغادرتها بيروت، ذكّراها بالقارب والميناء اللذين شهدا اقتلاعها من حيفا قبل اقل من ثلاثة عقود، بينما رزْمُ امتعتِها واقفالُ بيت الست بديعة (قبيل تسليم المفتاح الى المشتري) ذكّراها ببيتها في حيفا عندما غادرته سنة 1948، كما ان لطفَ جانيت ودفءَ مرافقتها جعلاها تتذكر زوجها عصام الذي فقدته. وهكذا "تكسرت النِصالُ على النِصالِ" فشعرت بحزن عميق يكتنفها راميا بها على المقعد المعَدّ لها في الجهة اليمنى من الطائرة، بجوار النافذة...لم تحرك حليمة ساكنا أثناء إقلاع الطائرة وبدت وكأنها مشلولة. لكن ما ان ارتفعت الطائرة قليلا حتى حانت منها التفاتةٌ نحو اليمين، فأطلَّ عليها عبر النافذة منظرُ بيروت. سارعت، قبل ان تستوعب المنظر باكمله ، الى مدّ يدها لتسدل ستارة النافذة، وكأنها لا تريد ان تدع بيروتَ تراها وهي تختفي عنها، أو ربما كأنها تسدل الستارَ على إمكانية التقائها ببناتها.
استولت على حليمة كآبةٌ شديدةٌ لم يخلّصها منها سوى حرارة استقبال أنيس(زوج جانيت) واولادهما الثلاثة ناصر وجول وجمال في ردهة استقبال الوافدين في مطار مونتريال، الذين رحبوا ترحيبا حارا ليس بجانيت فحسب، إنما ايضا بحليمة مؤكدين لها انهم يرون بها صورة حية لجدتهم بديعة... حرارة الاستقبال الذي حظيت به حليمة، بعث في قلبها دفئا أذاب جليد الكآبة المتراكم هناك، كما اعاد اليها ابتسامتها ورفع معنويتها، فقررت ان تضفي على انيس وجانيت واولادهما، سعادةً لا ان تقلب ايامهم همّا وغمّا.
تولّت حليمة ادارة شؤون البيت، مهتمة بكل كبيرة وصغيرة، مفسحةً لجانيت مجالا للعمل خارج البيت، في احدى الشركات التجارية الكبيرة. كانت حليمة توزع وقتها بين عملٍ يتطلبه البيت، وبين وقتٍ للإستراحة تخصِّصُ جُلَّه للمطالعة في اللغات الثلاث التي تجيدها باعتبارها خريجة مدرسة راهبات المحبة في حيفا. كانت حليمة تداوم على قراءة بعض المجلات الاسبوعية والكتب التي كانت تختارها لنفسها او التي كانت تُقدم اليها هديةً من افراد الاسرة من حين لآخَر. أما الجريدة اليومية فلها وقتها المخصص في ساعات الصباح المبكر، ما بين ذهاب افراد الاسرة الى اعمالهم ومدارسهم، وبين مباشرة العمل المنزلي وترتيب البيت. هذا التوقيت اضحى، مع مرور الاشهر والسنوات، طقسا ثابتا يسيطر عليه مشهدُ حليمة وهي تمسك فنجان القهوة بيدها اليمنى، والجريدةَ بيدها اليسرى.
ذات صباح، صُعقت حليمة عندما رأت في الجريدة، صورتين لها ايام شبابها. اهتزّ جسمُها وارتجفت يدُها اليمنى، فكادت القهوة الساخنة تنسكب عليها. سارعت حليمة الى وضع الفنجان جانبا، لتمسك الجريدة بيديها المرتجفتين، محاوِلةً ان تقرأ الخبر الذي تتوسطه الصورتان. مضمون الخبر الذي تمكنت حليمة من قراءته بصعوبة متناهية، زاد من ذهولها. لقد تضمن قصةً غريبة جدا ومثيرةً للغاية...
فما هي هذه القصة؟ وما علاقتها بحليمة؟ وما هي ابعاد ذلك عليها؟ ومن اين حصلت الجريدة على الصورتين؟ ولماذا نشرتهما؟ عن كل ذلك وغيره، ساتحدث في الجزء الخامس، راجيا ان يسعني حلم القراء الكرام...