ذات صباح، صُعقت حليمة عندما رأت في الجريدة صورتين لها ايام شبابها. اهتزّ جسمُها وارتجفت يدُها اليمنى فكادت القهوة الساخنة تنسكب عليها. سارعت حليمة الى وضع الفنجان جانبا، لتمسك الجريدة بيديها المرتجفتين، محاوِلةً ان تقرأ التقرير الصحفي المستفيض الذي تتوسطه تانك الصورتان. مضمون التقرير الذي تمكنت حليمة من قراءته بصعوبة متناهية، زاد من ذهولها. لقد تضمن التقرير قصةً مثيرةً جدا عن شابتين من اصول لبنانية،هدى وسلمى:
كانت هدى في اواخر العشرينات من عمرها، عندما اتت الى المكتبة العامة في مونتريال لاستعارة كتاب كانت تبحث عنه. لاحظت ان احد موظفي المكتبة يبتسم لها محييا:" Hi Salma" (اي تحيةً يا سلمى). اثار الامرُ إستغرابَ هدى فقالت له بعد ان بادلتْه الابتسامةَ والتحية تأدبا، "انا لستُ سلمى"، فرمقَها بنظرة عتابٍ يُستشَفُّ منها انه لا يصدقها... استمرت هدى في تجولها في المكتبة معتبرةً ان الامر مجرد إلتباس. لكن رأيها هذا ما لبث ان تغير عندما رات ان موظفةً اخرى في المكتبة ، تتقدم منها مرحبةً بها ومعانقة ايّاها وهي تقول لها: " ان المكتبة تبدو ناقصة بدونك يا ىسلمى". ارتبكت هدى وبدت كمن تريد التخلص من هذا الموقف، فقالت للموظفة: "انا اسمي هدى وليس سلمى". بدت الدهشة على وجه الموظفة: " اذن لعلك اخت سلمى، اليس كذلك؟". حركت كلمة "اخت" لواعج في قلب هدى التي نشأت وحيدة في البيت الذي تبناها، فطالما حنّت بداخلها لمن يناديها "يا خيتا". فردت هدى على الموظفة بلهجة لا تخلو من التوتر:"انا يا عزيزتي، لستُ سلمى وليس لي اخت بهذا الاسم، ولا اعرف من هي سلمى ، فمن تكون سلمى هذه؟". شعرت الموظفة بانها قد سبّبت إحراجا لهدى فقالت لها معتذرةً: "سلمى انهت عملها في هذه المكتبة قبل بضع سنوات وانقطعت اخبارها عني"....
هذا التصرف من اناسٍ لا تعرفهم هدى، جعل بعض الظنون تشغل بالها، فقالت لنفسها، انها ربما وقعتُ ضحية تندّر على غرار مقالب برامج الكاميرا الخفية في التلفزيون، او لعلَّ في الامر لغزا، لن تتمكن من حلّه إلا اذا عرفت من هي سلمى تلك التي كانت تعمل في المكتبة، كما قيل لها. اشغل هذا الامرُ تفكيرهدى وانساها الكتاب الذي اتت من اجله الى المكتبة. انزوت جانبًا وغرقت في افكارها متسائلةً: "أيعقل ان يكون لي اخت؟ وكيف استطيع معرفة ذلك وانا لا اعرف والديّ البيولوجيين، كما ان والديَّ بالتبني لا يعرفانهما ايضا؟ وهل يُعقل ان تكون سلمى التي كانت قد عملت في هذا المكتبة، هي اختي فعلا؟! وكيف استطيع الان الوصول اليها؟".
قررت هدى ان تستعين بمديرة المكتبة، فتوجهت الى غرفة مكتبها. لقد جابهها هناك الموقف ذاته ، إذ وقفت المديرة مرحبة بها: " اهلا يا سلمى، انا مسرورة برؤيتك ثانية"... كانت المديرة واثقة من ان التي امامها هي سلمى وبالتالي لم تُعِر اهتماما كبيرا لما سمعته من هدى بانها ليست سلمى وانها زوجة دبلوماسي لبناني نُقِل مؤخرا للعمل في كندا. غير انها(المديرة) لم تفصح، تأدبا، عن موقفها هذا، فشعرت باحراجٍ جعلَها تنتهزُ مهاتفة تلفونية وصلتْها للتوّ، لتدعي ان عليها ان تعالج وضعا طارئا خارج غرفة مكتبها. إستأذنت من هدى طالبة منها الانتظار بضع دقائق ريثما تعود.
توجهت المديرة الى غرفة الارشيف الموجودة على بعد بضعة امتار من غرفة مكتبها. اقفلت بابَ غرفة الارشيف خلفها ثم فتحت خزانةَ ملفاتِ الموظفين القدامى. بحثت عن ملفِ سلمى، واذ لم تجده، سارعت الى اخراج كافة الملفات من الخزانة واخذت تقلبّها الواحد تلو الاخر، فخرجت مرة اخرى "بخفيّ حُنين". لم تيأس بل قالت لنفسها، لعليّ اجدُه على الرفوف، فخاب املها مرة اخرى. اخذت تتساءل: "اين اختفى الملف يا ترى؟ ومن سحبه من الارشيف؟ ومن له مصلحة في ذلك؟" وهل ثمة علاقة بين إختفاء الملف وظهور هدى على الساحة؟ اخذت المديرة تشعر بالتوتر، بسبب عدم عثورها على الملف من جهة، وبسبب تأخرها في العودة الى الشابة (هدى) التي تركتها في غرفة مكتبها من جهة اخرى.
استسلمت المديرة للامر الواقع، فقررت مغادرة غرفة الارشيف. مدّت يدها لإطفاء الضوء، واذ بها تلمح ورقة كالملف، كانت ملقاة على الطاولة التي في مركز الغرفة. كانت تلك الورقة تحمل قائمة باسماء موظفين قدامى بينهم سلمى ورقم هاتفها. سارعت المديرة الى تناول سماعة التلفون الذي امامها في غرفة الارشيف، طالبةً ذلك الرقم، ومتمنيةً ان لا يكون هذا الرقم قد تغير خلال السنوات الثلاث التي مرت على إنهاء عمل سلمى في المكتبة. لم يكن الخط مشغولا، فتوقعت ان تسمع صوتَ سلمى على الطرف الاخر من الخط، لكنها سمعت صوتا غريبا أرعبَها...
فمن هو صاحب هذا الصوت؟ وما علاقته بسلمى؟ وما هي انعكاسات ذلك على هدى؟ وعلى تتمة قصتها؟ وعلى حليمة التي تركناها تقرأ التقرير الصحفي الذي ادهشها؟ عن كل ذلك ساتحدث في "حليمة(6)" في الاسبوع القادم. فالى اللقاء...