سارعت المديرة الى تناول سماعة التلفون. لم يكن الخط مشغولا، فتوقعت ان تسمع صوتَ سلمى على الطرف الاخر من الخط، لكنها سمعت صوتا غريبا اجشّا لرجلٍ ممتعض "من هذا الازعاج" على حد تعبيره. لقد ارعبها ذلك الصوت، فسارعت الى إقفال الخط، وهمّت على مغادرة غرفة الارشيف والعودة الى مكتبها، وإذ بباب غرفة الارشيف يُفتح فجأة، لتطل منها موظفةُ "دائرة القوى البشرية" في المكتبة، وبيدها ملف سلمى الذي ارادت ان تعيده الى مكانه في الارشيف، بعد ان عالجت قضية تتعلق ببعض الموظفين القدامى. تناولته المديرة بلهفةٍ، من يد الموظفة، وراحت تقلب صفحاته، ممعنةَ النظر بالتفاصيل، فوجدت رقم هاتفٍ آخَر مختلف. سارعت الى تناول ىسماعة التلفون الذي امامها في غرفة الارشيف، طالبةً الرقم الجديد، ومتمنية ان لا يكون هذا الرقم الجديد قد تغير هو ايضا.
صوتُ سلمى على الطرف الاخر من الخط، جعل المديرةَ تطمئن ان الرقم لم يتغير، لكن الاهم من ذلك، انه جعلها تدرك ان السيدة التي تنتظرها في غرفة مكتبها، هي فعلا ليست سلمى كما كانت تظن. شعرت المديرة بتأنيب ضمير، كما رأت بذلك تحدّيا يستفزُّها لمعرفة سرّ هذا التشابه الذي يرقى الى درجة التماثل، بين طلتيّ سلمى وهدى. قالت المديرةُ لسلمى هاتفيا، بعد ان قصّت عليها بتأثرٍ كبيرٍ حكايةَ هدى: " لعل هدى هي اختك". حديث المديرة شحن سلمى عاطفيا، فردّت على الفور بصوت متهدج من شدة الانفعال: "يا ريت"، ثم انفجرت عبر الهاتف ببكاء شديد حالَ دون متابعة المحادثة...
اعادت المديرة سماعة الهاتف الى مكانها، ثم حملت معها ملف سلمى وقفلت راجعة الى غرفة مكتبها وهي تجفّف عينيها لئلا تَكشف دموعُها عمّا يختلج في نفسها من تماهٍ مع هاتين السيدتين. لقد وجدت ان هدى ما زالت تجلس على الكنبة الطويلة ذاتها. تقدمت نحوها وهي تشعر برغبة شديدة لاحتضانها ، لكنها تمالكت نفسها وجلست الى جانبها. لم تكشف المديرة لهدى عن محادثتها الهاتفية مع سلمى، لكنها قالت لها: " يبدو لي يا عزيزتي هدى، انك شقيقة سلمى". سكتت المديرة لحظة لترى وقْعَ حديثِها على هدى، ثم تابعت قائلة: "لكني أتساءل ايُّكما اكبر سناّ".
كانت هدى ما زالت تحت وقع التصريح الذي سمعته من المديرة، فبدت كمن تجمّد الكلام في حنجرتها. تنحنحت مرتين قبل ان تمكنت من القول: "لقد ولدت في بيروت، مساء يوم الثلاثاء 13 نيسان 1948". هذه الكلمات جعلت المديرة تقفز من مكانها واقفةً وهي تلوّح بملف سلمى، وتصرخ صرخة ارخميدس :" لقد وجدتُها"(Eureka)، قائلة لهدى: "الان اتضح لي سرّ هذا التشابه المطلق بينكِ وبين سلمى. فانتما يا عزيزتي، لستما شقيقتين فحسب، إنما انتما ايضا توأمتان متماثلتان...و..."
ارادت المديرة متابعة حديثها مع هدى، إلا انها توقفت فجأةً عن الكلام، لانها رأت باب غرفة مكتبها يُفتح دونما استئذان، ليطل منه وجهٌ مألوفٌ لها، فاندفعت مرحَّبَةً وهي تقول: "أهلا أهلا يا سلمى، تفضلي ادخلي"...هول المفاجئة جعل هدى تنتصب واقفة، لكنها لم تقوَ على التحرك باتجاه سلمى. في حين ان سلمى استطاعت ان تخطو خطوتين باتجاه هدى، لكنها ما لبثت ان توقفت وكأنها، هي ايضا، قد فقدت قدرتها على الحركة. حدّقت كل منهما في وجه الاخرى للحظات قليلة. شعرت وكانها تقف امام مرآة، فانهالت كلٌّ منهما على عنق الاخرى تقبيلا، كما عبقت ارجاء الغرفة بكلماتِ "خيتا، حبيبتي". تلك الكلمات التي جاءت معمّدةً بدموعٍ منهمرةٍ على وقع صرخات انفعال شديد، كان للمديرة ايضا، حصةٌ وافرةٌ منها.
سمفونية البكاء المنفعل هذه، استقطبت حضورَ بعض موظفي المكتبة، سيما سامي مساعد مديرة المكتبة. لقد هزّ المشهدُ مشاعره واستدرَّ دموعَه ايضا، فتحرك لديه حسُّه الصحافيّ وتجربته في الاخراج التلفزيوني التي صقلتها مؤخرا، دراستُه في معهد التمثيل العالي في مونتريال. تولى سامي امر التغطية الاعلامية لهذا الحدث الانساني المثير، كما قرر ان يستضيفَ هدى وسلمى في مقابلة حيّة على اثير القناة الكندية العربية، مساء اليوم التالي....
تسمرت حليمة امام شاشة التلفزيون في الوقت المعين للمقابلة، سيما وقد اضحت على ثقة بان هدى وسلمى هما ابنتاها، ممّا جعلها تتلهف لاحتضان كلٍ منهما، وتتساءل في الوقت ذاته عن مصير الابنة الثالثة. كانت حليمة، وقد انضمَّ اليها جانيت وانيس، تتابع ادق تفاصيل المقابلة التلفزيونية، مبدية اعجابها بلباقة سامي مقدم البرنامج وبسرعة خاطره وبمقدرته على استدرار المعلومات التي كانت حليمة تتوق لمعرفتها، او للتأكد منها، عن كلٍّ من هدى وسلمى، من حيث مسقط الرأس وتاريخ الميلاد والاسرة التي تبنت كلا منهما، ومن حيث الدراسة والتخصص والهوايات والظروف التي جعلت كلا منهما، تنتقل من لبنان الى كندا، وكذلك الحالة المدنية أهي عزباء ام متزوجة وغير ذلك من التفاصيل...
كان البرنامج يوشك على نهايته، لكنه رغم ذلك لم يفقد إنسيابَه ولم تتراجع جاذبيتُه للمشاهد. فجأةً، لاحظت حليمة، كما لاحظ انيس وجانيت، ان سامي مقدم البرنامج قد أخذَ يُكثر من وضع كفّ يده على اذنه، محاولا تثبيت السماعة الصغيرة التي تنقل الى اذنه مباشرة، تعليماتِ المخرج من وراء الكواليس، التي كان سامي يحاول الاصغاء اليها، مما شتّت تركيزَه وجعله يتلعثم قليلا. لكنه سرعان ما سيطر على الموقف، معلنا للمشاهدين في الاستوديو وخارجه، عن مفاجئةٍ هزّت كيانَه كمقدِّم للبرنامج، طالبا من المشاهدين حُسْنَ الاصغاء، فسمعوا للحال عبر تلفون الاستوديو، صوتَ سيدة تدعي انها تتكلم من تورنتو وان اسمها فدوى وهي تعتقد، على ضوء التفاصيل التي سمعتها عن هدى وسلمى، انها توأمة ثالثة لهما. ارادت فدوى ان تتابع حديثها فتُقدِّم اثباتاتٍ، إلا ان مقدم البرنامج (اي سامي) اعتذر لها بسبب انتهاء الوقت المخصص، واعِدا إيّاها بالعودة اليها تحت الهواء، ومؤكدا لها وللمشاهدين بانه اذا ثبت ادعاؤها بالدليل القاطع، فانه سيُخصِّصُ حلقةَ الاسبوع القادم، كاملةً "للتوائم الثلاثة".
سارعت حليمة بمساعدة جانيت وزوجها انيس، صباح اليوم التالي، الى تنسيق موعد لقاء مستعجل مع سامي الذي تولى ايضا مهمة اعداد البرنامج بالاضافة الى تقديمه....صُعق سامي وهو يرى الصور ويقرأ الوثيقة التي قدمتها له حليمة. فصوَرُ حليمة ايام شبابها، بدت، من حيث الملامح، وكأنها صورٌ حاليّةٌ لهدى وسلمى . اما مكتوب تحرير حليمة من "مشفى ام الخير" في بيروت، بعد ولادة التوائم، فلقد اثبت بصورة لا تقبل الجدل، ان الولادة قد تمّت فعلا في ذات التاريخ المبين في كوشان ولادة كلٍ من التوائم ، اي مساء يوم الثلاثاء 13 نيسان 1948...فضلا عن ذلك، فلقد اعربت حليمة عن إستعدادها للخضوع لاي فحص طبي يتطلبه امرُ إثبات امومتها للتوائم...
بعد ان ثبت لسامي ولإدارة التلفزيون صحةُ روايةِ حليمة، وبعد ان تأكدوا ، إعتمادا على الوثائق الرسمية والفحوص الطبية، من صحة إدعاء فدوى.. قامت إدارة التلفزيون بدعوة التوائم الثلاثة اي هدى وسلمى وفدوى، للمشاركة سوية في حلقة خاصة من برنامج سامي الاسبوعي، الذي سيُبثُّ حيّا من الاستوديو المدرّج الكبير في دار التلفزيون، كما قاموا بدعوة حليمة للقدوم، برفقة جانيت وانيس، الى الاستوديو ذاته ، طالبين منها ان تتمالك نفسها، وان تعتبر امر دعوتها الى الاستوديو، سرّا ينبغي المحافظة عليه ريثما تتم مقابلة التوائم الثلاثة. حضرت حليمة في الوقت المبكر المحدد، برفقة انيس وجانيت. استقبلهم سامي داعيا اياهم للجلوس في الصف العلوي من المدرج، بعيدا عن الاضواء المسلطة على المنصة الدائرية في مركز الاستوديو، التي سيجلس عليها بعد قليل، مع التوائم الثلاثة: هدى وسلمى وفدوى.
كان الاستوديو يغصُّ بجمهور المشاهدين، عندما صعد سامي والتوائم الثلاثة الى المنصة، لاحتلال اماكنهم... شعرت حليمة وهي ترى امامها لاول مرة، بناتِها الثلاث، ان القدر يجترح معجزةً امام عينيها. انتفض قلبُها معلنا تمرّدَه عليها وكأنه يريد ان يسبقها اليهن. تململت حليمة في كرسيها، وهي تهمُّ بالاندفاع نزولا اليهن لتحتضنهن. لكن جانيت وانيس، اللذين كانا يجلسان عن يمينها ويسارها، حالا دون ذلك.
اخذت اسئلة سامي تتوالى على هدى وسلمى وفدوى، بلباقةٍ متناهية مسْتَدِرّةًّ أجوبتَهنَّ التي كشفت عن تشابه، كاد يكون مطلقا، بين السيدات الثلاث. ممّا جعل التمييزَ بينهن صعبا، ليس بالسحنة والطلّةِ فحسب، إنما ايضا بالهوايات والميول والتطلعات والاذواق والافكار... إنتهز سامي هذه المرحلة من المقابلة، فاعطى لكل منهن ورقة بيضاء، طالبا ان تكتب، على انفراد، امنيةً تراودها في هذه اللحظة، فكانت اجوبتهن الخطية متشابهةً بكلماتها الى حدٍّ كبيرٍ، ومتماثلةً بمضمونها، إذ تمنّت كلٌّ منهن بكلماتها هي، ان تتعرف، يوما ما، على والديها البيولوجيين وبالذات على والدتها. هذا التماثل في الامنيات ايضا، صعق سامي وجعله يعلن على الفور: "ادعو السيدة حليمة الى المنصّة".
اخذ جمهور المشاهدين في الاستوديو، يتلفت شمالا ويسارا والى الخلف ايضا، ليرى من تكون حليمة تلك، إلّا ان الاضواء اطفِئَت فورا، فساد ظلامٌ مطبق في الاستوديو، شقّته بعد لحظات قليلة جدا، حزمةٌ من ضوءٍ كاشفٍ مُسَلّطٍ على حليمة التي وقفت مترنحةً في مكانها، عاجزةً عن الحركة. هبَّ انيس وجانيت لنجدتها، ولمساعدتها في التحرك نزولا نحو المنصة، وسطَ ذهول المشاهدين، وعلى وقع موسيقى اغنية "ست الحبايب يا حبيبة..." وفي غمرة "الصاعقة" التي اكتنفت المنصّة وشلت حركة هدى وسلمى وفدوى. لقد بدت كل منهن، واقفةً، مذهولةً، شاخصةً ومسمَّرةً في مكانها... لكن ما ان وطئت قدمُ حليمة ارضَ المنصة، حتى فتحت ذراعيها لاحتضانهن، فانهلْن عليها ضمًّا وعناقا، هاتفاتٍ "ماما...ماما..." تاركاتٍ العنانَ لدموعهن المنهمرة...، بينما عبقت اجواء الاستوديو بصوت فايزة احمد الشجيّ، وهي تردد: " ستّ الحبايب يا حبيبة، يا اغلى من روحي ودمي. يا حنينة وكلك طيبة...يا ربّ يخليكي يا امي...يا رب يخليكي يا امي..."