المقالات القصصية في كتاب " ماسيّات " لحاتم عيد خوري .
بقلم : الدكتور منير توما / كفرياسيف
سعدتُ جداً حين أهداني الدكتور حاتم عيد خوري مشكوراً نسخة من كتابه ِ " ماسيّات " الصادر بحلّة قشيبة وبإخراج أنيق يستهوي القارئ لمداعبة ما تتضمنه صفحات الكتاب ذات الطباعة الواضحة والجميلة بحروفها وكلماتها وسطورها مما يدل على ذوق فني رفيع للقائمين على إخراج هذا العمل الى النور وفي مقدمتهم الكاتب الذي حرص على أن يُظهِر مضامين كتابه بصورة مقالات قصصية لا حبكة فيها ولا بناء للقصة , بل سرداً لحوادث أو ذكريات أو تجارب بالغة البساطة ومن حولها فيض من التحليلات الاجتماعية والنفسية أو التأملات العقلية التي تعتبر مرآة ً للقيم الإنسانية والقيم الجمالية التي تعكس تفكيره النافذ وروحه الحرّة , وفلسفته الساخرة المؤثرة خفيفة الظل في تحليل النفوس وتصوير الشخصيات في واقع ٍ متعدّد الألوان والأطياف فكراً وممارسة ً ومعايشة ً .
ومن اللافت أن الدكتور حاتم خوري يدفعه الى كتابة هذه المقالات الفريدة بمضمونها ونهجها عاملان : عامل التنفيس عمّا في نفسه ِ من آراء وعمّا وقع له في حياته من أحداث , وعامل النقد الاجتماعي الذي رمى من ورائه الى الإصلاح . ولعلّني لا أبالغ إذا قلت إننا في معظم هذه المقالات لا نكاد نقرأ مقالاً قصصياً , بل نستمع الى أصوات تحدثنا وكأنها حاضرة بيننا , أو كأننا نحن قد دلفنا الى داخل المقال القصصي مما يكسب المقال طابعاً درامياً مسرحياً واضحاً , ويجعل الأحداث القصيرة والشخصيات المحدودة العدد تتمتع بالحضور القوي المجسّم .
وقد لمسنا في الكثير من المقالات القصصية هذه التي تأرجحت وتراوحت بين الروح الفكاهية الإجتماعية وبين الجدّية الواقعية الهادفة كما هو متجسِّد مثلاُ في مقالة " وإلّا سأخجل ُ بكم ! " من حيث إيراد الكاتب لحكاية قصيرة بقالب طرفة معبِّرة عن عقلية سائدة في مجتمعاتنا الشرقية , والواضح أن هذه الطرفة في المقال تشكّل بيت القصيد لأنَّ الكاتب يصوّر وضعاً سائداً لا يقبله منطق العقلاء , وبالتالي يحاول الكاتب أن يضع أصبعه على الجرح من خلال استحضار الابتسامة الواسعة أو الإضحاك ذي المعاني والتداعيات المتعلقة بالنفسية البشرية والطبيعة الإنسانية ذات الملامح الشعورية الخاصة المتأصلة في الوعي الذاتي والجماعي للإنسان .
وقد بلغ الدكتور حاتم خوري الأوج الأدبي والإنساني في مقالاته القصصية في هذا الكتاب عند مقالة " أم الأثنين " (ص 31 ) التي تتّسم بمخاطبة العواطف الإنسانية أولاً , والضغوطات الاجتماعية ثانياً , ليبيّن لنا الكاتب أنَّ الحسم أخيراً يكون بانتصار الخير والحق والعدل عبر صراعات ٍ نفسية داخلية تساعد على حلّها والخروج من شدّتها الى الانفراج بفعل عوامل لعبت فيها المصادفة دوراً هاماً محورياً للوصول الى لحظة التنوير أو الحل المبتغى .
وفي هذه المقالة القصصية , نجد تعرّض الكاتب للتناقضات الأخلاقية , وتخبُّط المفاهيم والعلاقات العاطفية والأسرية , نتيجة التقاليد المجتمعية بحيث عكست القصة في هذه المقالة التخبط الأخلاقي والحيرة الفكرية في مجتمع شرقي محافظ يخشى مثل هذه الفضائح الواردة في حيثيات القصة .
واهتم الكاتب الجاد هنا بتصوير هذا التخبّط من خلال المرأة باعتبارها البوتقة التي تتبلور فيها , ومن خلال معاناتها وحيرتها , كل التغييرات الاجتماعية على مختلف الصُّعُد الانسانية , والاجتماعية والعاطفية والمنطقية .
إنَّ الدكتور حاتم خوري يتناول في كتابه هذا معظم الموضوعات التي تلامس حياتنا المعاشة وواقعنا الاجتماعي على شتّى المستويات وتعدّد المجالات , فهو يتطرّق الى الجوانب الثقافية والتعليمية والتربوية والاجتماعية والروحية دون أن ينسى الى الإشارة لبعض النواحي السياسية ولو كان ذلك بالتضمينات والإيحاءات عبر أسلوب ٍ شائق ٍ لا يبعث الملل أو الضجر لدى القارئ و بل يحفزه على التفكير وتحليل ما وراء السطور لإدراك المعاني والأهداف المنشودة التي تتأتّى من مضمون ٍ ثري أدبياً وفكرياً .
ومما يسترعي الإنتباه في هذه المقالات القصصيّة أنَّ موتيفات الإخاء الإنساني بين أفراد البشر , الصالح العام للناس , قضايا الحق والعدل , والفساد والمحاباة والمحسوبيات والفئوية وما الى ذلك , هي موتيفات تتكرّر في الكتاب بغية إبراز تموّج حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية بشكل ٍ طاغٍ الى حد ٍ كبير , ليؤكد الكاتب أخيراً أنَّ النزعة الانسانية في البشر لا بد أن يكون لها الكلمة الأخيرة .
إنَّ الدكتور حاتم خوري يطرح في المقالات القصصية هذه رسالة فكريّة تربط موضوعاته بالخلفية الاجتماعية للشخصيات , وتناقش عدة مفاهيم حياتية , وتتعرض لعيوب ٍ مجتمعية متعلق أكثرها بالجهل , كما تتناول القيم والفضائل الثابتة التي تسود المجتمع مع شيء من التحفظ تجاهها لسلبيتها في بعض الأحيان والمواقف , ولو كان ذلك مُعبَّراً عنه بالإيحاء من طرف ٍ خفي دون تصريح ٍ مباشر ’ لكنه مفهوم ضمنياً .
لقد رأينا الدكتور حاتم خوري في هذا الكتاب كاتباً قديراً يعالج الأمور في العمق بسلاسة وانسيابية , ويقلّبها تقليب مفكّر جريئ , وصريح , ويمتد بصرهُ الى آفاقٍ واسعة في غير تردّد أو توجّس , ويحلل كل شيء تحليل ناقد ٍ مستنير متسلحاً تارةً بالسخرية الهادفة , وتارةً أخرى بخفّة ظل ٍ ساحرة , ويجمع في أدبه ِ المقالي القصصي هذا بين الدعابة الساخرة والروح الجدّية الرصينة بكثير من السهولة والبساطة والتدفق الإنساني الفيّاض .
ومن الملاحظ في كتاب الدكتور حاتم خوري أنّ كل مقالة قصصية تتفرّد بنسيجها الفني المحكم ووحدتها العضوية البنائية , إلّا أنها إذ تتفاعل مع المقالات القصصية الأخرى في إطار المجموعة ككل نجدها تنشط دلالياً على مستويات إضافية , وتزداد ثراءً وعمقاً , فالجملة التي قد تبدو تقريرية في مقالة ٍ قصصية مثلاً تكتسب بعداً إستعارياً في ضوء وحدة هذه المجموعة , وهي وحدة تنبع من ارتكازها وتمحور بنائها على المفارقات والتضمينات والإشارات بالتلميح الحكيم في دائرة ٍ إنسانية تذوب فيها كل الإيجابيات والسلبيات .
إنَّ كتابة الدكتور حاتم خوري حافلة بالمتعة تستهوي المتلقي قراءتها , وتشدّه اليها شدّاً , فللكاتب طاقة مميزة في إحياء الموقف الهادئ والمثير في آنٍ واحد , واسترجاع الذكرى التي عملت في نفسه وفي فكره ِ , استرجاعاً دقيق التفاصيل , يحمل أمواجاً من الشفافية وتدفّق الروح وغنى التعبير السهل الحافل باللباقة وحُسن الأداء .
وهكذا , يتضح لنا مما تقدّم أنَّ كاتب " ماسيات " ينطق بكلام الضمير الإنساني الواعي , ينتقد المجتمع في فسادهِ واضطرابه ِ , والجهل والظلم والتعصب الأعمى الذي يضيع فيه الوداد والمحبة والوئام , ويواجه المجتمع بصراحة واستقامه , وكأنه إعلانٌ حرٌّ لحرية الإنسان وحرية القلم من خلال أسلوب ٍ يمتاز بالجرأة والمصارحة , مضيفاً اليهما التهكم والسخرية بطريقة تصويرية طريفة بحيث يمكن القول أنّ أسلوب الكاتب حيّ , شخصي يجمع السهولة الى المتانة ليؤدي فكرته بوضوح وأمانه ودقة دون وعورة أو تعقيد ليكون مقنعاً , شديد الإقناع .
فللكاتب الكريم الدكتور حاتم عيد خوري أصدق التحيات , وأجمل التهاني بصدور هذا الكتاب , مع أطيب التمنيات بالصحة والتوفيق ودوام العطاء.