تربطني بصديقي منصور المكنّى "ابو الوفا"، روابطُ صداقةٍ عمرها نحو اربع وستين سنة. البداية كانت في الناصرة عندما جمعتنا فترةُ الدراسة على مقاعد الصف التاسع في مدرسة تراسانطه الثانوية. لكن تلك الفترة لم تدم سوى ثمانية اشهر، حيث إضْطُرّ منصورٌ على ترك المدرسة والانخراط في ورشة بناء، عاملا معيلا لوالدته ولاخوته الذين كانوا اصغر منه سنًّا، وذلك في اعقاب القاء القبض على والده وإدانته بتهمة امنية ملفقة، والحكم عليه بالسجن خمس سنوات.
ابتعاد منصور عن المدرسة لم يجعله يبتعد عني، فلقد دأب على زيارتي كلما سمحت إدارةُ القسمِ الداخلي (الداخِليّة كما كنا نسمّيها) بذلك، وعلى دعوتي بين فينة واخرى لزيارة بيتهم في احدى القرى المجاورة للناصرة، فاهنأ هناك بجو حميمي يذكرني ببيت أهلي في فسوطه. كما ان انقطاعه عن الدراسة المنتظمة وإنغماسه في اعمال البناء ، لم يكبح طموحَه ورغبته في التعلم ، ولم يصرفه عن المطالعة. لقد كان يقول لي ان عمله يكسبه ما يعتاش به هو ووالدته واخوته، بينما المطالعة تمنحه ما يعيش لاجله. لقد كان يسألني دوما عن اخبار المدرسة والدراسة، وعمّا تعلمنا. كما كان حريصا على المطالعة باستمرار، مستعينا بي على استعارة كتب مطالعة من مكتبة المدرسة. لقد حدثني في هذا السياق، عن مبادرته لجمع نسخ من الاعداد القديمة لمجلة "المجتمع" التي كان يصدرها في حينه المرحوم الاستاذ مشيل حداد ابو الاديب، إذ لم تكن إمكاناته المادية تسمح له بالاشتراك في المجلة او بشراء اعدادها الجديدة .
كان منصور يعكف يوميا على المطالعة، بعد ان يعود الى البيت من عمله اليومي الشاق. فبعد ان يستحم ويتعشى، كان يتناول المجلة ويبدأ بالقراءة من حيث انتهى في اليوم السابق. في احدى الامسيات، وبينما كان منصور يقرأ بشغف كبير قصة مثيرة منشورة على ورقتين متتاليتين (اي على مساحة اربع صفحات) في المجلة التي كانت بين يديه، ، متلهفا لمعرفة نهاية تلك القصة ومصير بطلها، داهمه النعاسُ عند نهاية الصفحة الثانية، فاستسلم له، أولسْنا نقول: "النعاس سلطان"!.. لكنه قرر ان لا ينتظر حتى مساء اليوم التالي لمتابعة قراءة تتمة القصة ، فانتزع من المجلة، قبل ان يخلد للنوم، الورقةَ الثانية التي تتضمن نهاية القصة ، ثم قام بطيّها وايداعها في سلة الزوّادة التي كانت والدته ام منصور كعادتها، تحضّرُها له.
غطّ منصور في نوم عميق لم تقطعه رنّاتُ المنبّه، فانقذت امُّ منصور الموقفَ بعد مرور دقائق ثمينة. هبّ منصور مذعورا وبينما كان يهيّيء نفسه على عجل، لئلا يتاخر عن موعد سفر الحافلة التي تقله الى الورشة، تذكرت امُّ منصور انها ربما لم تضع ملحا في الزوادة، فسارعت الى فتحها والتفتيش بداخلها. لم تجد ام منصور ملحا، لكنها وجدت الورقة المطوية فجعلت منها صُرَّةَ ملحٍ صغيرة...
غداة اليوم التالي، انتظرَ منصور بفارغ الصبراستراحةَ الغداء ليس لسدِّ رمقه فقط، إنما شوقا لمتابعة قراءة تتمة القصة ايضا. فتح الزواده، لكنه لم يجد صرّةَ الملح المعتادة. عتب على والدته، وشعر انه قد فقد شهيته، فترك الزوادة جانبا. اراد ان يخفف عن نفسه بقراءة تتمة القصة، فتناول الورقة المطوية، وما ان فتحها وراى الملح داخلها، حتى انفجر ضاحكا وقد ادرك ما حصل. ارتاح منصور لهذه الفكرة التي وفَّرت له، في آن واحد، ملحا للزوادة ومادةً للقراءة بعد وجبة الغداء، فجعل منها تقليدا وفّر له يوميا فترتي مطالعة: في البيت بعد العشاء وفي الورشة بعد الغداء، فاصبح منصور بذلك مطالعا نهما.
محبة منصور للمطالعة نمّت لديه رغبةً شديدةً في متابعة دراسته المنتظمة. فما ان تحرّر والدُه من السجن، وعاد إلى العمل والى إعالة اسرته، حتى التحق(منصور) بمدرسة ليلية اعدّتْه بنجاحٍ لامتحانات البجروت الخارجية، ثم لمتابعة دراسته الجامعية في كلية الاداب وكلية التربية حيث حصل على اللقب الاول في اللغة العربية وآدابها، وعلى شهادة تدريس، ممّا أهّلَه للعملِ معلِّما للغة العربية في المدارس الاعدادية، وفتح له فيما بعد، الطريقَ لمتابعة دراسته والحصول على الماجستير.
احبّ منصور عمله وراى في التعليم رسالة سامية، معتبرا المدرسةَ مكانا للعمل وليس مكانَ عملٍ فقط. كما كان شديد الغيرة على اللغة العربية الفصحى متحيّزا لها، حريصا على استعمالها بصورة سليمة ورافضا اي مهادنة بهذا الشأن. فطالما رايتُه يتململ في مقعده، متضايقا من شطحات نحوية وعثرات لغوية يرتكبها بعض مُعْتلي المنصات الخطابية المتكلمين باللغة الفصحى، في منتدياتٍ ادبية او في مناسبات تأبين او في حفلات تخريج وغيرها. لقد رايتُه مرة يغادر غاضبا، قاعةً يخطب فيها احدُهم بلغةٍ عربية فصحى تؤكد ان "خطيبنا" هذا لا يعرف الحركات و"لا يعرف انه لا يعرف"! ليصْدُقَ فيه – على ذمة صديقي منصور- قولُ ابراهيم طوقان: ".... رفعَ المضافَ اليه والمفعولا". أما قصة منصور مع مهيوب، فلها عندي نكهة خاصة تثير ضحكي كلما تذكرتها. قدَّمَ "شاعرُ الحداثة" الاستاذ مهيوب، كما يطيب له تسمية نفسه، ديوانَه الجديد على حدّ تعبيره، هدية ً الى منصور، منوّها "ارجو ان تتمتع بالشعر الحديث". قرأ منصور "القصائد" الاولى التي تصدَّرت الديوان، فوجدها مجرد كلماتٍ مبعثرة خالية من المعنى والموسيقى، فكتب الى مهيوب مداعبا: "صديقي كلُّ ما فيه لطيفُ/ ولكِنْ في محادثتي خبيثُ"، "يُحدِّثُني فلا افهم عليه/ كأن حديثَه شعرٌ حديثُ".
موقفُ منصور ممن يسيئون الى اللغة العربية فيتعاملون معها باستخفاف، لم يتغير حتى بعد ان بلغ السن القانوني للخروج على التقاعد وانتقل من قريته الى السكن في حيفا بقرب ولديه اللذين يعملان هناك، مسَهِّلا علي بذلك فرصةَ الإلتقاء به. لقد شاءت الظروف ان يكون لقاؤنا الاخير، في مساء ذات اليوم الذي صادقت فيه اللجنة الوزارية للتشريع في اسرائيل، على النصّ الجديد لقانون القومية وما يترتب عليه من تبعات خطيرة وبعيدة المدى، على حياتنا كاقلية قومية في بلادنا، سيما على لغتنا العربية التي سيجرّدُها هذا القانون من مكانتها كلغةٍ رسمية ثانية في اسرائيل. وهكذا فان هذا القضية قد فرضت نفسها على لقائنا بصورة تلقائية دونما استئذان، فتناولناها بالبحث من كافة جوانبها.
قال منصور بانفعال شديد: "انا لا استغرب ان يصدر مثل هذا القانون عن حكومة يمينية متطرفة، دأبت على سَنّ قوانين عنصرية، فبات بحكم الطبيعي ان تستهدف ايضا اللغةَ العربية كمَعْلمٍ من معالم انتمائنا القومي على صعيدنا المحلي، فضلا عن كونها آخر علامة من علامات الوحدة بين شظايا امةٍ مزّقتْها وبعثرتْها الصراعاتُ الاقليمية والمذهبية والحمائلية والسياسية و...و...".
وجْهُ منصور المتضرِّجُ وعرقُه المتصبّب وَشَيا بارتفاع منسوب غيظه وتوتره، فخشيتُ عليه صحّيّا سيما وكنتُ اعلمُ انه يعاني من ضغط دمٍ عالٍ،. قررتُ ان احسم الموضوع إنقاذا للموقف، فلجأت الى نكتة تداعت الى ذاكرتي عندما سمعتُ منصورا يتحدث عن "اللغة العربية كــآخِر علامة من علامات الوحدة..."، فرويتُ له النكتة التالية:
رأي ابراهيم صديقَه حسّان وهو يجرّ كلبا صغيرا خلفه، فسأله: "لوين رايح يا حسان مع هذا الكلب؟". اجابه حسّان: "الى الطبيب البيطري، كي يقصَّ له ذنبَه". فقال ابراهيم باستغراب شديد:"بَسْ ليش؟!". ردّ حسّان قائلا: "حماتي ستأتي الى زيارتنا ، وبودي ان ازيل آخِر علامة من علامات الفرح في بيتنا".
ضحك منصور حتى استلقى على ظهره، وضحكت انا معه، اما القضية، التي كنّا بصددها، فما زالت عالقة.