مرِّرْها (1) د. حاتم عيد خوري
دعانا (زوجتي وانا) احدُ الاصدقاء، في اواخر سنة 1974، لمشاركته فرحته بولادة ابنه الاول، اي ولي عهده كما كنّا نداعبه، في حفل عائلي يُقام في عكا في مساء احد ايام الجمعة. كان صديقنا يدرك اننا قد لا نتمكن من ترك طفلينا الصغيرين(5 و3 سنوات) في بيتنا في حيفا والحضور الى عكا، فاصرّ ان نحضرهما معنا باعتبار المناسبة "مناسبةً أهلية" على حد تعبيره. وهكذا عندما اكّدنا له حضورنا قبل المناسبة بايام قليلة، لم نكن نتوقع اننا سنكون مضطرين للسفر ظهر يوم الجمعة إياه، الى فسوطه(قريتي)، لظروف طارئة تستوجب حضوري هناك لبضع ساعات. قلتُ: "لا بأس، سنسافر الى فسوطه ومن هناك الى عكا للمشاركة في حفل صديقنا"...وهكذا كان...
غادرنا فسوطه في ساعات المساء المبكر ميممين شطر عكا. كانت طريقنا سالكة رغم ظروف الطقس الشتوية. مررنا كعادتنا في مفترق ترشيحا. لاحظتُ ان مؤشر البنزين في سيارتي، يميل نحو اقصى اليسار، وكأنه يغمزني داعيا ايّاي الى موعد مع اقرب محطة وقود. تجاهلتُ "الغمزة" لئلا اتأخر اكثر عن الحفل في عكا. كنت اتطلّع بشوقٍ لمشاركة صديقي فرحتَه، ولإلتقاء رهط الاصدقاء الذين توقعت حضورهم. لكن ما ان اصبحنا على بعد بضعة كيلومترات من مشارف شمال عكا ، وإذ بي اشعر بخلل في السيارة، ما لبثتُ ان عرفت سببَه، عندما ترجلت من السيارة بعد ان انتحيتُ بها الى اقصى يمين الشارع وشغّلتُ اضواء الطواريء ذات الومضات المتعاقبة. لقد رايت العجَل الخلفي الايسر قد اضحى مسطّحا تماما. قلت لزوجتي محاولا طمأنتها: "انه البنشر اللعين، ولا بد من استبدال العجَل". ولكن كيف؟!. فالرؤية اضحت غير متيسرة بعد ان ارخى الليل سدوله، مطلقا العنان لظلمةٍ دامسةٍ غير آبهةٍ بالمصباح الكهربائي الذي كان بحوزتي إذ بدا خجولا امامها، وغير مباليةٍ ايضا باضواء السيارات العابرة، فبدت تلك الاضواء بدورها، مجرد ومضات متتالية لا تسعف الناظر ولكنها تخطف نظره.
ومما زاد الطين بلّة، هو قلقي من البَلَل الذي سينتاب حتما بدلتي الجديدة التي كنت ارتديها استعدادا للحفل. لكن سرعان ما استسخفتُ ذلك القلق إزاء الورطة الحقيقية التي نحن فيها: سيارة معطَّلة وظلمة دامسة ورياح معربدة وبرودة لاسعة وزوجة قلقة واطفال نيام...وكل هذا في منطقة لم تكن مأهولة آنذاك وفي عهد ما قبل الهواتف المحمولة. قررتُ مجابهة الموقف وعدمَ الانصياع لأمر "الإقامة الجبرية" داخل السيارة، الذي فرضته عليَّ زخّاتُ المطر المتعاقبة، وامْلتْه اصواتُ وقع سقوطها على زجاج السيارة وسقفها. انتظرتُ لحظاتٍ ريثما خفّت زخّةُ المطر. ترجلت من السيارة دون ان اطفيء المحرك، حفاظا على استمرار تدفئة السيارة وعلى اضوائها المشتعلة. تناولت من مستودع السيارة الادواتِ اللازمةَ لاستبدال العجَل. نجحت في فكّ البرغي الاول، لكن الثاني بدا عصيّا على الفك، متمردا على المفَّك البسيط الذي كان بحوزتي، وربما مستخفَّا بمؤهلاتي الميكانيكية ايضا، وكأنه يقول لي: "خيّط بغير هالمسلّة".
لم يبق امامي سوى وسيلة الاستنجاد باحدى السيارات العابرة. فتقدمتُ نحو حافة الشارع بحذر شديد ، لئلا اتعرض للدهس. كنت احمل بيدي اليمنى مصباحا كهربائيا. اخذت الوّح بيد واحدة ثم باليدين، لكن احدا لم يقف ربما لانَّ حركاتِ استغاثتي لم تسترعِ انتباه السائقين او ربما لأنهم لم يلحظوا وجودي في الظلام سيما وان بشرتي سمراء وبدلتي سوداء ومصباحي الكهربائي متهالك وقد استُنزفت جمّاعته(بطاريتُه) فبدا ضوءه باهتا كضوء ذبالةٍ شحَّ زيتُها او كلَمَعانِ "يراعة سراج الليل" في ليلة مقمرة.
اعترتني خيبةُ امل شديدة، ولسعتني ريحٌ جنوبية غربية باردة، وبلّلت ثيابي او كادت، قطراتُ ماءٍ مؤذنةً بزخة مطرٍ وشيكة، فهرولتُ عائدا الى السيارة. جلست خلف مقود السيارة. حانت مني التفاتةٌ الى لوحة اجهزة القياس(Dashboard) التي امامي. اذهلني الضوء الاحمر المُطِلّ من ساعة البنزين إيذانا بنضوب الوقود وما سيترتب على ذلك من شللٍ للمحرك وتفريغٍ للبطارية وإطفاءٍ للأضواء وانعدامٍ للتدفئة. شعرت باحباطٍ كاد يجعلني اصرخ: "يا الله ما العمل؟!". لكني تمالكت نفسي ربما لاني لم ارد ان اسيء الى زوجتي فازيد همّها غمًّا، او ربما لاني تذكرت البيتين التاليين من الشعر:
"ولربّ نازلة يضيق بها الفتى/ ذرعا وعند الله منها المخرجُ"
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها/ فُرجت وكنتُ اظنها لا تُفرجُ".
لقد دأبتُ على ترديد هذين البيتين في كل ازمة تعترض طريقي، فاستمدُّ منهما املا يعينني على تجاوز المحنة. هذا الامل المرجو سرعان ما تحقق هذه المرة ايضا، عندما لمحتُ في المرآة التي امامي اضواء سيارة تتقدم باتجاهنا لتقف خلف سيارتي، ولينزل منها سائقُها تاركا محركها شغالا واضواءَها مشتعلة... رأيتُ امامي شابا اسود البشرة مرتديا ملابس رياضة(training) ويبدو في اواخر العشرينات من عمره. خاطبني بلغة عبرية مكسّرة ذات لكنة امريكية واضحة، مستفسرا عمّا إذا كنتُ بحاجة الى مساعدة. اجبتُه بالانكليزية متلهفا: "طبعا، بكل تأكيد..." ومشيرا بسبابتي نحو العجَل المسطّح قائلا له: "اكون شاكرا لك إن ساعدتني...".
لقد شعرت براحة قلّما شعرتُ بمثلها، وانا ارى الرجل يشمّر عن ساعديه ليباشر العمل دونما تردّد. راقبتُ عمله وكأني اعيش حلما. كنتُ مشدوها ومتسائلا في آن واحد: " ما الدافع الذي جعله يقدّم لي هذه المساعدة؟ أهو مجرد صاحب نخوة؟ ام هو ممّن يأكلون خبزهم بعرق جبينهم؟ ام لعلّه واحد من اولئك الناس الذين يتحيّنون فرصة ضائقة الآخرين لتكسّبٍ إستغلالي؟...". هذه التساؤلات التي لا تخلو من ظنونٍ بعضُها إثم، حسَمَها ردُّ فعلِ الرجل وهو يعتذر عن قبول اي مبلغ مقابل اتعابه ويجابه بلطفٍ اصراري على دسّ مبلغ من النقود في يده او في جيبه. كما رفض ان يعرّفني بنفسه وهو ينسلُّ من بين يديّ باتجاه باب سيارته، قائلا لي قبل ان ينطلق بسرعة، جملةً قصيرةً اثارت استغرابي واتعبت بالي على امتداد اكثر من عقدين من الزمن. فماذا قال لي؟ ولماذا قال هذا؟ ومن هو هذا الرجل أصلا؟
عن كل ذلك واكثر ساتحدث في الحلقة القادمة...