بقلم زايد خنيفس
ظهر يوم الاثنين دفعني واجبي أن اتوجه لقرية حرفيش في الجليل الاعلى لتقديم واجب العزاء لعائلة المرحوم الشاب كميل شكيب شنان وعند اسفل المنحدر المؤدي للقرى، تطل عليك بلدة وادعة يتوجها مقام النبي سبلان عليه السلام ويتوج شمالها الجميل احيانًا والاسود احيانًا أخرى، عند اول الدوار انتصب تمثال القائد سلطان باشا الأطرش، راكبا فرسه الاصيل ووجهه للغرب اذا لم تخني الجهات ودخلت البلدة القديمة وتجولت في ازقتها الجميلة المؤدّية لبيت الشعب، الذي اتّسع آلاف المعزّين على مدار ايام العزاء. وقف الشيوخ احترامًا للمعزين كان والد المرحوم ما زال يظهر عليه التعب والتأثر، تارة كنت أرى الابتسامة على مساحة وجهه، فقد خففت هذه الوفود عن الحزن، لهذا المصاب الجلل، هذا اروع عاداتنا وتقاليدنا.
اذا ارجعنا عقارب الساعة لصباح يوم الجمعة الساعة السابعة صباحًا في باحة المسجد الاقصى المبارك وللحادث الاجرامي الذي نفّذه به ثلاثة شبان من ام الفحم ضد افراد الشرطة، حراس هذا الصرح المقدس وقبته الذهبية، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم عرج بطريقه للسماء وجعله من اقدس الاماكن بل جعله اختبارا لسبل الايمان والحادث الاجرامي الارهابي الذي لا يوصف بغير ذلك، ادى لمقتل المرحومين الشرطيين كميل شنان وهايل ستاوي ومقتل ابناء من ام الفحم والحقيقة الاولى تورط شبان عرب بكل التسميات هي تحول خطير في العلاقات داخل الدولة.
انا على يقين وقناعة بأن هناك من انتظر هذا (التورط) وكانت مصيدة من حيث لا يدري هؤلاء الشبان ولا يدري من ارسلهم والنتائج كانت واضحة وخلال ساعات أصدر المجلس الامني المصغر، برئاسة رئيس الحكومة أوامره بإخلاء المسجد الأقصى، لأول مرة منذ خمسين عام من كل المصلين والمسؤولين ورجال الاوقاف وما لحقه من نصب معابر كهربائية عند المداخل فخسر من خسر السيطرة على المسجد الاقصى وخسرنا الحلبة الدولية وخسر عرب الداخل مواقف التعامل مع هذا الحدث وكاد يصل لمواجهات بين مركبات هذا المجتمع.
موقف شكيب شنان قبل دفن ابنه حوّل مسار الفاجعة الى مسار جديد فيه بريق امل وضوء في اخر النفق الاسود وعندما قال: (استبدلوا رصاصكم بالورود والازهار) وتمنى ان يكون ابنه وسنده وحبيب قلبه وابن قرية المغار المرحوم هايل ستاوي اخر ضحايا العنف بين الشعبين. حديث وتصريح شكيب شنان الخارج مع اسراب الدمع قد حدد اتجاهاً، ووضع عنوانًا للامل بأننا يجب ان نكون اكبر من المصيبة والحقيقة التي اقولها انا لم استغرب موقف بيانات التعقل البعيدة قليلاً عن العواطف الجياشة بل حددت في الواقع موقف لرجال عرفوا قيمة المسؤولية الملقاة على عاتقهم بأجواء مشحونة في شرق وبلاد مشحونة في المتناقضات والتطرف الديني الاعمى.
الحقيقة الاخرى التي نعرفها من مصادرها الاكيدة دخلت مركبات لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في ارتباك ولم تعرف اتخاذ موقف واضح من الحادث الاجرامي في باحة الاقصى المبارك حيث راح بعضهم يتهم الاحتلال بهذه الاحداث والحقيقة خضع هؤلاء لأجواء التحريض التي مارستها بعض التيارات في اعقاب الحادث وكأن قضية الاقصى والقدس ولدتَا بالأمس وغاب عن هؤلاء فصول المؤامرة على شعب بكل مركباته وافراد الشرطة في باحات ومداخل الاقصى وظيفتهم محدودة وهي الحفاظ على النظام ودخول المصلين ومنع المتطرفين خاصة من (الحرديم) والمستوطنين من العبث في هذا الموقع المقدس.
السؤال الكبير ماذا جنى هؤلاء المجرمون بفعلتهم؟ وهل تحرر الاقصى ورفعت على اسواره القديمة اعلام فلسطين وتحول المكان لمسؤولية السلطة الفلسطينية؟ ام ان بفعلتهم وغدرهم قدموا هديةً للسلطات الاسرائيلية للتشبث أكثر بباحة الاقصى ومسجده والهيكل وجداره والاعشاب الممتدة على مساحته؟ ألم يمسّ هؤلاء القتلى بتفكيرهم الأعمى بجسد العلاقات الأخوية التي تربط أبناء الشعب الواحد؟ ألم يدركوا بأن الاقصى له موقع في قلب الله وهو صلاة ومغفرة ومحبة.
عملية الاقصى لم تكن صائبة وليست حكيمة بل هي من فعل شيطان أمة واذا ظن البعض فيها شهادة فهي كانت بدون تسجيل علامات لأن الله هو صاحب الروح وهو خالقها وحارسها وتضرع البعض بخيار الاحتلال وعناوين أخرى مثل التجنيد الاجباري هي محاولة يائسة بل هرب الامة من حقيقة مؤلمة بأن في قعر الوادي نامت الشعوب العربية وتحولت الى نعاج الغرب والدليل لم تخرج مظاهرة واحدة من عاصمة عربية عندما اغلق الاقصى.
المعضلة الاخرى كانت في لجنة المتابعة العليا التي غاب عن بعض شخصياتها الصورة الكاملة للأبعاد الاجتماعية والانسانية وكان هَم هؤلاء مقارعة اليمين الاسرائيلي ولم يهمهم الحياة المشتركة في القرى المختلطة بعد مقتل الشرطيين من حرفيش والمغار ونقول لهؤلاء: الاحتلال لم يولد امس ولن يموت غدًا لان أجمل جوهرة يجب ان تكون في عقولكم هي المحافظة على العيش المشترك في قرانا العربية وما دام الجيش والشرطة واذرع الامن المختلفة اصبحوا من كل الألوان، أي لم يعُد يُقتصر فقط على الدروز.
خسرت القيادات العربية موقفًا وربح شكيب شنان والد المغدور الشرطي كميل شنان كل المواقف بعد ان حدد بحديثه قيمة الرصاص وقيمة الورد ومدى خطورة الفتنة فكانت الكلمة والكلمات القصيرة المبللة بالدموع اثمن من الجواهر في جواريرها المثبتة ومسجد الاقصى وباحاته لم تكن مرة ساحة للتفتيش والغدر ولا يهرب بل يلجأ لرحابه الطاهرة المؤمنين لكن ان تغدر برصاص القتل وتهرب لباحته فلا غفران ولا حسنة لك عند الله وشكيب شنان وبيان المسؤولية للشيخ موفق طريف وبعض الاخوة والوفود المشتركة من الطوائف الثلاث الى بيوت العزاء حدد مسار طائفةٍ تعرف ما لها وعليها، وتُدرك أن إبعاد لهيب النار عن جسدها يُعتبر مسؤولية عليا.
أنهيتُ تقديم واجب العزاء وقلت للأخ شكيب (نعتز بك وقبّلته من جبينه) وعدت لأزقة حرفيش والرحاب الطاهرة بحضرة النبي (صلعم) وعندما وصلت دوار القرية كان سلطان باشا الاطرش ما زال راكبًا فرسه التي ارتفعت قليلاً نحو السماء وكأن قائد الثورة قرأ الرسالة الاتية من بيت الشعب ورّدها بكلمات: "أعتز بكم لأني أعرف الان بأن أحرف وصيتي لم ينسَها أحدهم" .