وأخيرا وبعد سنوات طويلة من القلق والحزن والتراجع، يحق لنا ألا نردد بيت الشعر الذي اعتدنا عليه مع مقدم كل عيد: " عيد بأيّة حال عدت يا عيد"؟ حيث يعود علينا عيد الأضحى المبارك هذا العام ليس "بما مضى" بل "لأمر فيه تجديد". وهذا التجديد والجديد يتمثل في تحقيق الانتصارات الميدانية الأخيرة لقوات الجيش العربي السوري ومعه حليفته المقاومة الاسلامية اللبنانية على الأراضي السورية، والجيش اللبناني على أراضيه، الى جانب انتصارات الجيش العراقي في دحر وهزيمة عصابات داعش الارهابية- التكفيرية- الظلامية، التي عاثت لسنوات قتلا وتدميرا وبطشا وتنكيلا، واليوم تهيم على وجهها في صحراء الشام والعراق والجبال اللبنانية طالبة السلامة والرأفة، وملقية السلاح أمام من كانت تقتل منهم وتهزأ بهم وتتوعدهم بالموت والويل. ها هي علبة الكرتون الداعشية تتمزق وتتشرذم، وها هي دمية داعش الاصطناعية يتخلى عنها صانعوها بعدما ملّوا منها واستهلكوها ولم تعد تأتي لهم بالفوائد المرجوة، فرموها لقمة سائغة لخصومهم، كما اعتاد الاستعمار على التخلي عن أعوانه وعملائه بسهولة عندما ينتهي دورهم القذر في العمالة.
المثير في الأمر أن الدول التي سبق ودعمت العصابات الارهابية في غزوها لسوريا، ووقفت وراءها وأمدتها بالمال والسلاح والعتاد، ورفعت مطلب ترحيل الأسد كشرط لعودة الهدوء لسوريا واقامة نظام حكم جديد، عميل، تابع، ظلامي. تلك الدول تخلت عن شرطها ذاك وغيرت من لهجتها وتصريحات مسؤوليها تباعا، الذين أخذوا يتنازلون عن شرط رحيل الأسد ولم يعودوا يعتبرونه من الأولويات، وذهب البعض الى أنه يحق للأسد البقاء والتنافس على رئاسة سوريا في عملية انتخابية، وتخلت الدول الحاضنة للارهاب عن عملائها ووكلائها في سوريا ماديا بعد الثمن الباهظ الذي دفعته عبثا. أمام تلك التحولات في مواقف الدول وتراجع داعش والنصرة ميدانيا واستسلام عصاباتها أمام ضربات الجيش العربي السوري وقوات حزب الله، وهذا مؤشر على اعترافها بالأمر الواقع وبحجمها الحقيقي، نلاحظ أن بعض الحركات والأشخاص عندنا يتمادون في مواقفهم المنغلقة والانعزالية والعدائية للرئيس السوري شخصيا وللدولة السورية الوطنية العلمانية العروبية، والتي عاد ورسم ملامحها وأكد ثوابتها الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير من الأسبوع الماضي، ولا تكتفي تلك الأطراف بابداء العداء الأعمى نحو الدولة السورية، انما يسقطون خيبة أملهم وقلة حيلتهم أمام انهيارات أحلامهم وتصوراتهم العبثية على كل من يخالفهم الرأي، فنراهم يهددون ويتوعدون دون أن يتعلموا الدرس من هزيمة من اعتبروهم مثلهم الأعلى.
ومثلما عندنا كذلك في لبنان. نرى ونسمع التصريحات البائسة واليائسة لبعض الشخصيات والأطراف التي بنت أوهاما عن سقوط النظام السوري، ورأت في الحركات الارهابية الظلامية حليفا غير معلن لها، فانزلقت نحو الخطيئة السياسية، واليوم تأبى اعادة حساباتها والتراجع عن أخطائها. واذا نظرنا الى حقيقة نفوس أولئك الأطراف - سواء هنا أو هناك - نرى أن الحقد يحركها ويدفعها للتمادي في مواقفها العدائية العمياء، بينما تحكم مواقف الدول في نهاية الأمر مصالحها السياسية والاقتصادية ولهذا فهي على استعداد لأن تحول وتغير في مواقفها كما نشهد في الأسابيع الأخيرة خاصة.
ولنترك المنهزمين والمحبطين في أزمتهم، الذين قال لهم جميل السيد عبر فضائية "الجديد"، في لقائه مع الاعلامي جورج صليبي، مستهجنا حقدهم الأعمى: " من أنتم؟ ما هو حجمكم؟" ودعا السيد حسن نصرالله في كلمته مساء الاثنين الماضي، الى تركهم يلطمون وجوههم حزنا على الهزيمة النكراء التي لحقت بهم.
لنلتفت الى الانتصارات الكبيرة التي تحققت على أرض الميدان ومعانيها. ان تحقيق النصر لم يكن يتم لولا الارادة والوحدة والتنسيق بين القوات المشاركة، وهذا درس في أهمية الوحدة وما يمكن أن تحققه، وخاصة بين القوى الوطنية والمناوئة للخط المهادن والتابع للغرب في الوطن العربي. ان هذه الانتصارات تعيدنا الى أيام مجيدة عاشها العرب بتحقيق الضربات الموجعة للاستعمار أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حين وقف عبد الناصر يتحدى وقاحة أمريكا التي منعت تمويل بناء السد العالي، فأقدم على تأميم قناة السويس وضرب المصالح الفرنسية والانجليزية، معتمدا على مساندة الشعب المصري والشعوب العربية، التي هبت في كل مكان تتصدى للارهاب الدولي وتفشل العدوان الثلاثي الفرنسي – الانجليزي- الاسرائيلي وبمساندة الحليف السوفييتي. اليوم تعود الصورة بجوهرها ومضمونها لكن بأسماء أخرى، وتقف روسيا خلف الجيوش الوطنية والمقاومة، بكل قوة تدعم وتساند ومعها ايران ودول أخرى.
كنت أتوقع من أطراف علمانية وقومية أن تعيد حساباتها بعد خطاب الأسد الأخير، اذا كانوا حقا يؤمنون بتلك الثوابت، وان كنت لا آمل من الأطراف الغارقة في الطائفية والانغلاق الفكري فعل ذلك. وأسألهم مباسرة: ماذا تنتظرون، ألم تكفكم كل تلك السنوات، الى متى تدفنون رؤوسكم في الرمل وتظنون أن ظلامكم الفكري هو الذي سيوصلنا الى عالم عادل؟ ألا اعلموا أن الطريق الذي رسمه لنا القائد الخالد جمال عبد الناصر، والذي سنحتفل بالمئوية الأولى لميلاده بعد أشهر قليلة، هو البوصلة لمسيرتنا ولمستقبلنا في أوطاننا ولحياتنا في هذه المنطقة. ها قد جربنا كل البدائل والطرق الأخرى وقد أدت بنا الى الهلاك والدمار والتفتت والكراهية، لا طريق الا طريق القومية العربية التي تجمع العرب معا دون تفرقة في الدين والجنس والعرق، والتي تهدف الى ايجاد وحدة عربية تجمع وتشد الأزر وتقوي وتدعم وتسند برؤية جديدة ومنفتحة ومتنورة.
فهنيئا للشعوب والقوى المناضلة التي هبت تحرر أراضيها من دنس الارهاب اليوم، مستكملة درب الأمس في تحرير الأرض من دنس الاستعمار. وكأني بالشاعرة السورية عفيفة محمد الحصني، في قصيدتها التي أهدتها لعبد الناصر قبل نصف قرن، تصف ما حدث الأسبوع الماضي:
واتحّدنــا فغدَونــا قـوّةً تنشرُ العدلَ بروضٍ خصبِ
وحكَمنا فضرَبنا للورى مثـلاً في قوّةِ الحــرِّ الأبــي
( شفاعمرو/ الجليل)