انفعالية الغضب عند نظير شمالي قراءة في مجموعته الشعرية "رقاع الى صلاح الدين"
بقلم الدكتور منير توما - كفرياسيف
لقد كان من دواعي الغبطة والسرور أن يقوم الاستاذ الشاعر والأديب نظير أحمد شمالي باهدائي مشكوراً نسخة من مجموعته الشعرية الجديدة "رقاع الى صلاح الدين" حيث قرأت قصائدها مستمتعًا بمضامينها وأسلوب كتابتها وغزارة معانيها وجزالة الفاظها، وقد بدا الشاعر في جزء كبير من قصائد المجموعة منفعلاً بغضب على ما آلت إليه أحوال العرب في هذه الأيام من تدهور وتردٍ في الظروف الحياتية والسياسية والاجتماعية التي أظهرتها الممارسات الخاطئة والمؤسفة لكثيرٍ من الحكام العرب في سياساتهم التي أدّت الى العديد من الكوارث والمآسي لشعوبهم التي تعاني الأمرين من هذه الأوضاع المأساوية السائدة.
ويوحي لنا الأستاذ نظير شمالي بمدى الغوص في مستنقع التأذي والتبدل عربيًا فيما لو قورن بأيام العزّة والسؤود والازدهار فيما مضى بوجود قادة خالدين كصلاح الدين الأيوبي. إنَّ شاعرنا لا يتحرّج أبداً في هذه المجموعة من استخدام التقنيات الأسلوبية التي تصوِّر هذه المحنة التي الفيناها مشبعة بالانفعالية المبرّرة والولع بالاطلاقات، فقد غوضب وأُحبِط فسخط وافتقد الثقة فيمن كان يؤمّل فيه الخير، فجاء أسلوبه مشبعًا بالفاظٍ مطلقة: (التدجيل، التهريج، التصفية، الحقد، العناد، الروح، النصر، القصاص، وغير ذلك). وهذه وما شابهها معادلات فنيّة لنقدهِ الغاضب الانفعالي واستثارته ومغاضبته، فالشعر بالنسبة له في هذه القصائد ضرورة حياتية، وكالبلسم الذي يداوي جراح نفسه، فالفاظه قوية مطلقة، والمقطوعة التالية من قصيدة "لفاطمة أغنية موقوته في مخدع السلطان" تعكس وتؤطِّر لهذه المعاني:
زُناةُ العُرْبِ كلّهُمْ كلّهُمْ صفقوا لقرابين الوطن!
لم يستحوا، لم يستحوا، وما شاءَ زنديقُهُمْ فَعَلْ!
أمنُوا القصاصَ، قصاصَ العبيدْ
وما أدراكَ ما قصاصُ العبيد؟! ما أدراكَ ما قصاصُهُم؟
عبيدٌ ينامُ بَلَّدَهُمْ فيضُ جَهْلٍ وخَدَرْ
في عوالمِ السفلس في المواخيرِ المُهَرَّبَةْ
وفي قاتٍ من الجَلْلِ والتحشيشِ هم غارقونْ
فمَنْ أَمِنَ العواقبَ في الناس، فيهمْ أساءَ كلَّ الأدبْ
أجَلْ، لم تستحوا، فاصنعوا ما شئتموه!!
وهكذا نرى شاعرنا انفعاليًا مستاءً ممتعضًا، ونسمعه ساخطًا على ما يدور في محيطه العربي من فسادٍ وتخلُّفٍ وانهيار للقيم بكل معانيها وتداعياتها، ونراه يبدي اشمئزازاً ويشكو التعب النفسي والكلال متبرمًا بهذه الأوضاع المسيئة الفاضحة لأخلاق غريبة عن العرب والعروبة، وفي ذلك يقول في قصيدة "مَرَاتٍ على عتبات القادسية":
هذا زمانُ للنسا، والتاجُ تاجُ الراقصةْ
يا حضرةَ الراعي المُفدّى، صرتَ تيسًا في قفصْ لَحْمَ الخَنا أطعموكْ
يا مليكًا بِبَّعا ما صانَ عهدًا للرعيَّةْ
كيفَ أَمستْ في حِماكُمْ، كيفَ أَمْسَتْ؟!!
كيفَ طابَ الليلُ، يا مَلِكًا مُطاعًا، كيفَ طاب؟!!
يا ضباعَ الأرضِ، هذا ليلُكِ الداجي أتانا
يا حِقْدُ، صفِّقْ للجنونْ
يا حقدُ، صفِّق للملوكْ
نادمُوا أنجاسَ أهلِ الأرضِ في ليلِ الضحايا!!
في هذه المقطوعة، نلمس غضب الشاعر على حُكّام العرب، وذلك من خلال الألفاظ الحافلة والمفعمة بالصور الفنيّة التي تبعث ضيق الصدر في نفس المتلقي بفعل سلوكيات هؤلاء الحكّام الذين يصفهم ويصورهم شاعرنا بأقذع الأوصاف الموحية بالابتذال والنقائص الأخلاقية لما يصدر من سياساتهم وأخلاقياتهم الملتوية التي سئمَ وأدانها الشاعر بشدة بالغة التقريع والصخب الايحائي المرير.
وممّا يستوقفنا في هذه المجموعة الشعرية قصيدة "مصرع مصارع الثيران في رقصة العري" التي تعج بروح النغمات العبثية من جهة، والعدمية (Nihilism) من الجهة الأخرى، فالشاعر قد تعمّد – في رأينا – أن يعري مواقف يائسة في الأوضاع العربية الحالية المُحزنة، مُعَبِّراً عنها بأسلوبٍ فريد حاشد بالأخيلة والصور (images) التي تُبَطنِّ في داخلها حالات العري الفكري والاجتماعي والانساني مشيرةً الى وعي الشاعر بهذا الابتئاس العارم الذي يسود النفسيات العربية القاتمة نتيجة هذا التشظي والتشرذم الراهن، وكل ذلك يبدو في لغة شاعرنا المتميزة المتشابكة مع نسيجه الوجداني، وهي داخله في لحمتهِ وسداه، معبرة عن قوامه الفني، ليس فقط على مستوى مقطع أو قصيدة، ولكن على مستوى شعره كله في هذه المجوعة الشعرية التي تمتاز بخصوصية المشاعر والأفكار.
إنّ جزيئات المشاعر والأحاسيس في هذه القصيدة تمثّل الى حدٍ كبير كليّات يبغي الشاعر أن يعيدنا فيها الى تاريخ زاهر قد أفل واندثر، لكنه لا يزال ماثلاً في الذاكرة المتألمة على ما فات، والنص التالي في المقطع الخامس من القصيدة يميط اللتام عمّا نعنيه بكلامنا هذا:
هُنا جَلَسَتْ.. هُنا عيناها حُفرتان بلا كَفَنْ
بكيتُ حينَ بكَتْ.. في قطارٍ من بُكاءْ
في الغدِ يأتي بالبيادر المُترعةْ،
فالملايين طوفانُ جوعْ،
نهرٌ من الجنون الزاحف، طوفانُ جُوعْ..
(ابي عادْ..
بكى القلبُ بين يديْه
والأميرةُ في كهفٍ هناكْ
تمشطُ الشَّعر، وتبكي حينَ يطولُ السَّفرْ..)
من الملاحظ أنَّ الرمزية على مستوى هذا المقطع خاصةً، وعلى مستوى القصيدة عامةً يتمحور حول الجملة التي تتكوّن منها الألفاظ والكلمات الموحية، بحيث تكون الجملة بكلّيتها رمزًا قائمًا بذاتهِ لفكرة معينة أو موقفًا خاصًا أراده الشاعر أن يلامس الذهنية الرشيقة المتقدّة للقرّاء والسامعين من خلالِ الايحاءات المتدفقة مع الكلمات التي يسترسل بها الشاعر بطريقة ومضات شعورية تنطلق منسابةً الى الاذهان لتجسِّد المعنى المراد إيصاله للمتلقي.
وحين نأتي الى قصيدة "ثلجٌ ستائركِ هذا المساء"، نجد أنَّ شاعرنا يقرن الذاتي بالعام، فهو ممثلٌ لوضعٍ شامل يتسِّم باللوعة والحسرة والضياع العاطفي في دنيا العشق والحب، فكل شيء قد أضحى كئيبًا أدكن بأجوائه الدّالة على القتامة الظاهرة في ألفاظهِ الوصفية. ففي النص التالي من هذه القصيدة تبدو حركة الهدم قوية متنامية يجسِّدها فعل الواقع الموصوف الذي يصعد من اطرافهِ الفرح المحروق، والعطر الغائب، وعبق الحياة المفقود. وقد وردت هذه المعاني في المقطعين الخامس والسادس للقصيدة أدناه:
رماديٌّ، كئيبٌ وردُكِ، سيدتي
شمعيةٌ رسائلُهُ، باهتٌ ثوبكِ الأزرقْ
رماديةٌ، قاحلةٌ كلُّ الكلماتْ...
لِمَنِ الغناءُ، يا ليلةً من ألفِ ليلةْ
لمنِ الغناءُ، سيدتي، وقنديلُ العشقِ انطفأ؟!!
ما عادَ في القلبِ رنّاتٌ للوترْ
ما عادَ في الأُفقِ سحرٌ للسحَرْ
ورمادُ العشقِ بعيدًا.. بَعيْيْدًا .. قد سَقَطْ
خريفيهٌ، شاحبةٌ كلٌّ الكلماتْ
ميّتٌ.. وجهُ ذيَّاكَ القَمَرْ!!
وخلاصة القول إنَّ شاعرنا الأستاذ نظير أحمد شمالي هو واحدٌ من الشعراء المحدثين الذين عايشوا وما زالوا يعايشون تحربة الواقع المرير بكلّ أبعادهِ متأثراً بالظرف التاريخي وبصدمة تجربته الخاصة مع أجواء هذا الواقع، وهو يحمل قلبًا ينبض بالحسرة ونفسًا تسيطر عليها ظلال خيبة الأمل الدكناء والاحباط الموحِش.
وكان لهذا الصدام العنيف بين شاعرنا ذي الآمال العريضة، وهذا الواقع المُظلم وقعٌ راسخ في تحديد اتجاهاتهِ الشعرية في مجموعته الشعرية هذهِ، وتحديد صوره الفنيّة لرصد عمق المأساة. وبذلك أجاد شاعرنا في التعبير عمّا ترسّخ وتبلور في ذهنه من أفكارٍ نيّرة الأبعاد، وعمّا اعتمل في مكنونات صدره من مشاعر صادقة النوايا والمعاني، فلهُ منّا أجمل التحيّات، وأطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من العطاء والابداع.