كان ذلك في لندن في مطلع شهر كانون الأول(ديسمبر) سنة 1983، عندما ناولتْني زوجتي الرسالةَ التي وصلتني للتوّ من رئيسة لجنة اولياء الامور في المدرسة الابتدائية التي يتعلم فيها اولادنا. تضمنت الرسالة دعوةً لنا للمشاركة مرة اخرى في الامسية الدولية لاطباق الطعام (Internatioal Food Evening )، التي تحرص لجنة اولياء الامور على إقامتها سنويا في المدرسة، سعيا منها لتوسيع آفاق تلاميذها(غالبيتهم العظمى من الإنكليز واقلية قليلة من الاجانب)، ولدمج التلاميذ الاجانب وذويهم ايضا، في المجتمع الانكليزي المحلي. كان واضحا لنا ان المشاركة تعني ان نتولّى للمرة الثانية إعدادَ طبق طعام شعبيّ من بلادنا، وإحضارَه في المساء اياه، وتسليمَه مبكرا الى لجنة الاولياء التي تتولى ترتيبَ الأطباق على الطاولات وتزيينَ قاعةِ اللقاء إستعدادا لاستقبال التلاميذ واهاليهم.
لقد ترددتُ من ناحيتي، في قبول تلك الدعوة لأنّ "المؤْمِن لا يُلدغ من جحر مرتين". اللدغة الاولى كانت في السنة الدراسية الماضية، عندما رأيتُ ان يافطة صغيرة كُتب عليها: " Israeli Food" اي "طعام اسرائيلي" قد رُفِعت فوق طبق الفلافل و"حاشيتها" من الطحينة والسلطة الخضراء التي كانت زوجتي قد أعدّتْها . فقلت لزوجتي آنذاك، وانا اشير بسبابتي نحو اليافطة: "ان هذه اليافطة تذكرني بالشاعر الانكليزي الشهير وليام شكسبير الذي نسَبَ الى يوليوس قيصر مقولةَ "Et tu Brute" أي "حتى انت يا بروتوس!". ابدت زوجتي استغرابَها من ملاحظتي، لكنّها ضحكتْ عندما سـمعتْني اخاطب "جاطَ" الفلافـل بلهجةِ عتابٍ: "حتى أنتِ يا فلافل قد طالتْكِ يدُ المصادرة؟!".
إنّ ترددي لم يدم طويلا بسبب تذكري لعاملين: اولهما المثل الفلاحيّ المعروف: "إذا ضاعَ الجمل فلا أسف على الرسن"، وثانيهما ان زوجتي كانت قد احسنت آنذاك، توضيحَ امرِ "هُويّة" طبق الفلافل، في إطار الوقت الذي كان مخصصا لها كبقية الامهات اللواتي أعددن الاطباقَ المعروضة، فتخطَّت حدودَ وصفةِ تحضير الفلافل، متطرقةً الى جذورها(الفلافل) الفلسطينية والشرق اوسطية.. دون ان تتنكر لحقيقة كون الفلافل اليوم، طعاما شعبيا شائعا ايضا في المجتمع الاسرائيلي على اختلاف مشاربه. هذان العاملان جعلاني اميلُ الى قبول الدعوة، وهذا بدوره قد نال موافقةَ زوجتي فاعربت عن استعدادها هي ايضا، للمشاركة في الامسية، والعمل على إعداد طبقٍ شعبيٍّ آخَر، فوقع اختيارُها على المجدَّرة، لكنها كما يبدو لم تكن واثقة بحُسْنِ اختيارها، فسألتْني: "هل المجدَّرة تليقُ بمقام الامسية؟". سؤالُها هذا ذكرني بقصة بنت بلدنا ام حسام.
ام حسام سيدة فاضلة ورعة من فسوطه، في الاربعينات من عمرها. حرصت ام حسام على تربية اولادها الصغار على قيم التقوى، فكانت تصرّ ان يصلي كلٌّ منهم قبل تناول الطعام، الصلاةَ الربّانيةَ المعروفة: "أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك...أعطنا خبزنا كفاف يومنا...الخ...". إنصاعَ ثلاثةٌ من اولادها الاربعة لتعليمات والدتهم، فدأبوا على الصلاة قبل الاكل، بينما كان موسى وهو الابن الاصغر، يحاول دائما التملّص من هذا الواجب. أمّا اذا اكْتُشِفَ امرُه، فكان مبدِعا في اختلاق الاعذار. إستمرَّ هذا الوضع الى ان ضُبِط موسى مرة، وهو يمدُّ يدَه لتناول اللقمة الاولى من صحن المجدّرة الذي امامه على الطاولة، دون ان يصلّي. صرخت عليه والدته قائلة له: "ليش ما صليت يا موسى؟"، فاجابها بعفوية: " ليش يمّا، كمان المجدرة بِصَلّولْها؟"....
تمنيتُ لو كان موسى (وقد اصبح اليوم رجلا) معنا في تلك "الامسية " في لندن، ليشاهد بامِّ عينه جاطَ المجدّرة متربعا على طاولة كبيرة تحفُّ به اطباقٌ عديدة اخرى بينها الاسيوي والافريقي والاوروبي ايضا، وليشاهِدَهُ فيما بعد جاطا مستهدَفا فمستنزَفا من آكِلين معجَبين لم يبخلوا عليه وعلى زوجتي التي أعدّتْه، بكلمات الاعجاب والاطراء. هذا المشهد الذي تألقت فيه المجدّرة، حملَني عكسَ تيارِ نهرِ الايام والسنين، من لندن الى راس النبع في فسوطه، ليحطَّني في بيت اهلي وفي مدرستي الاسقفية الابتدائية. رايتُ والدتي رحمها الله، تقدّم لي كعادتها صحنَ العدس المسلوق الذي دأبتْ منذ طفولتي على تقديمِهِ إليّ كلما كانت تطبخ مجدّرة، فشعرتُ بحنين شديد الى تقبيل تلك اليد، كما رأيتُني اعود الى الصف الاول الابتدائي، لالقي عن ظهر قلب، في حفل اختتام السنة الدراسية 1945-1946، قصيدة المجدّرة للشاعراللبناني أسعد رستم، والتي مطلعها:
سمعا بني وطني لأخبرَ قصتي فيها فوائد جمّة مع تذكره
قد صاب داعيكم بجسمي كله مرضٌ فافقدني الهوى والمقدره
وظننتُ من فرط التألم انني لا بدّ لي من ان ازور المقبره...
كما رايتُني اسمع ضحك الجمهور واسْحَرُ بتصفيقه وانا اردّد في القسم الاخير من القصيدة:
ما اقبح التطبيب في ايامنا فالكلُّ منكم جاهلٌ ما احمره...
قلتُ: الذي يشفي مخاطرَ علَّتي شيءٌ وحيد ، فهو صحنُ مجدّره...
ودعوتُ اهلَ البيت حالا قائلا توني مجدّرةً فيكفي بربره...
فأتوا بها صحنا كطودٍ شاهقٍ هلّلت من طرفي المنازع ابصره...
ونهضتُ كالسبع الكسور وصحتي صخرٌ وقد اصبحتُ امشي الغندره...
ولبطّتُ وجهَ الارضِ حتى خلتُني كادت تزعزعُ لبطتي سطحَ الكُره.
اونسأل بعد ذلك، لماذا يُطلِقُ اهلُ قريتي على المجدّرة لقبَ "مسامير الرُكَب"؟