كتب لي حين أهداني ديوانه : "إلى عشّاق الكلمة وناقلها... تسعد قصيدتي حين تدخل حديقتها صباحًا لاصطياد النّدى" ، فقرأته مرارًا وعشتُ مع نبض الديوان ومع الإهداء.
قرأتُ ديوانَ " إلى أين تأخذ حيفا أيها الفُلك" للشاعرِ الحيفاوي – ابن قرية إجزم المهجّرة - رشدي الماضي الصادرِ عن مؤسسة الأفق للثقافة والفنون الحيفاوية (وقد صدرت له دواوين عدّة منها : مالحة في فمي كل الكلمات، تهاليل للزمن الآتي، عتبات لعودة زمن الخروج، مفاتيح ومنازل الكلمات وغيرها) يحوي الديوان 30 قصيدةً، تقع في 105 صفحات، زيّنت الغلاف صورة لحيفا وبحرها، وللحق لم أجد حيفاي فيه رغم أن الشاعر ذكر كلمة "حيفا" 44 مرة! عبر صفحات الديوان بتكرار محبط فلو جاء ذكرها مرّة واحدة فقط، لكان وقعها وأثرها أكبر بكثير.
تزامنت قراءتي للديوان مع جولة في حيفا العتيقة نظّمها نادي حيفا الثقافي بإرشاد مؤرخ حيفا د. جوني منصور، وذكرى الأربعين لوفاة عاشق حيفا طيّب الذكر الشاعر أحمد حسين واستلامي "مسَوّدة" لوحة عنوانها "حيفا" بريشة صديقي د. يوسف عراقي الذي هجّرَ من حيفاه في النكبة، وما زال فيها، استحوذت اللوحة وجداني وبقيت مشدوهًا ساهمًا بها فهي تتنفّس حيفا النقيّة ببحرها وكرملها... ووجدانها، وتصرخ بتسونامي مياهها: يا حيفا ....عائدون!
حاول شاعرنا، كعادته، أن يلتحمَ مع نفسِه الداخليَّة والخارجيَّة وحيفاه بواسطةِ الرموز والإيحاءات التي استعملها في قصائده فحَشَدَها بقوة وأقحم الأساطير والاستعارات بنشافة، دون نبض وحرارة وروح.
كي تكونِ أديبًا عليك أن تكون مثقّفًا، ورشدي نِعمَ المُثقّف - لكنه أقحم واستخدم أسماء الفلاسفة والمشاهير والمعالم (مثل نيقروبوليس ومدن الموتى، دانتي وجحيمه، يوليسيس، لوركا وبابلو نيرودا، ماكاندو – القرية الاسطورية التي أبدعها ماركيز في مائة عام من العزلة، شيخ هيمنغواي، بيكت وسافو وغيرهم) ليستعرض معلوماته ويشير إلى سعة اطلاعه وثقافته المتنوعّة دون حاجة إلى ذلك، فنراه يزجُّ بتكلّف مشيرًا إلى ثقافته العالية بتصنّع، لا غير، مما لا يخدم حيفاه والنص، ولنجد قصائده تليق بمدن وموانئ كثيرة دون أن توحي بحيفاي أو تُشير إليها مما يجعلك تفتّش عن حيفاك ولا تجدها!
لم أجد حيفاي في قصيدة "هي مطرٌ صحوهُ شتاءٌ مُضمَر!" حين قال:
"حجارة "لسبوس" التي تَبكيها "طروادة"
مدينةٌ... لا تسلْني عن اسمِها!
تُريدُ... ضَمَّ القادمينَ العالقينَ في قواربِ "أُوديسيوس"
وجوهًا مُتلهّفةً
ابتعدت عن "يأس نوح"
لتمسكَ بطوفانٍ غير صالحٍ للغرقِ..."
بينما نجد قصيدة محمود درويش "النزول من الكرمل" تصرخ حيفا :
"يفتّش كفّي ثانية، فيصادر حيفا التي هرّبت سنبلة |
و يا أيّها الكرمل، |
الآن تقرع أجراس كل الكنائس |
و تعلن أنّ مماتي المؤقّت لا ينتهي دائما، أو ينتهي مرّة، |
أيّها الكرمل، الآن تأتي إليك العصافير من ورق |
كنت لا فرق بين الحصى و العصافير |
و الآن بعث المسيح يؤجّل ثانية |
أيّها الكرمل، الآن تبدأ عطلة كل المدارس" أبدع شاعرنا في "حيفا القصيدة" حين غنّى : "حيفا! هزّي بجذع الكرملِ حرّكي شوقَهُ المكبوتَ لأدخل ... مهرجانًا ورديًّا يُهرولُ جِهةَ قصيدةٍ توشوشُ غبشَ الوصول تحفُّ بي بدهشتها وتشرحُ أبوابًا يُبكيها المغيب..." لكن حاولت جادًا أن أجد حيفاه أو حيفاي في القصيدة الرائعة التي تحمل اسم الديوان دون جدوى فيقول شاعرنا : " خلعتُ عنها محطّةً أقلَّ من القَطا وسألتُ: إلى أين يأخذني ... يا نوحُ طوفانُكَ الجديدُ فُلكًا في لجّةِ المجهولِ قد تاها؟!" بينما نجد حيفانا جليّة في "قراءات في ساحة الإعدام" للشاعر أحمد حسين حين يقول: |
"أنا ليس لي علَمٌ ولا سَفَرٌ، ولا شجرٌ أعلّقُ الأحزانَ فيه، ولا أنا سوى ما يحسبُ السّجّانُ، فاعترفي بأنّكِ مُتِّ، وانصرفي!
سأكتبُ ما تيسّرَ من عناوينِ القبورِ بدفترِ الأوقاتِ، إنَّ القبرَ أشجى من معلَّقةٍ، وأبقى من مدينة.
لن يعرفوا حيفا إذا رجعوا،
فكيفَ يدلُّهم شِعري إذا لم ينظروا في معجمِ النكباتِ،
هذي الأرضُ لا تأتي إلى أحدٍ،
وتقتربُ المنافي في مساحات الفراق كأنّها وطنٌ،
وفي الأيّامِ تختبئ المواعيدُ التي تتحيّنُ الأقدامَ
والطرقُ الهجينة".
يطغى على الديوان الغموض والتلميح ، فنجده مكتظًا بالمعاني والاساطير الدينية مما يدل على ثقافته المعرفيّة وخبرته الابداعية، منسابة بسلاسة وأريحيّة تزخر بلغته الجميلة المدبلجة والمتمرّدة على المألوف والمتجدّدة ، يلوج في التاريخ صاقلًا تجربته لينقلها للمتلقي مهما كان الثمن مما يشفع له بالكثير. ولكن، نشافتها مقيتة تجرح موسيقاه الشعرية .
كل مرّة أقرأ شعرًا عن حيفا أتذكر لقائي الأخير بطيب الذكر أحمد دحبور وتجوالنا في شوارع حيفا العتيقة وساحلها ومشينا على رملها، وحديثنا عن والدته ، وهو في المخيم، تقول له الكثير عن حيفا. "كانت أمي تدلك قدمي، وتحكي لي عن البحر الذي جلبته لي خصيصا من حيفا، وكنت أراها بأم عيني، تنشر البحر خلف منجرة المخيم فأسبح فيه وأغتسل، وأسمح لأترابي بالمشاركة… اللهم إلا الأشقياء منهم، وفي الليل تقفل أمي البحر، وترسله في الحنطور إلى حيفا.. وحيفا هذه ليست مدينة، إنها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي!"
صدق محمود درويش حين قال ببساطة ووضوح وبدون تأتأة:
"يقول لي جدي دوماً .. بأنّ حيفا أجمل مدن العالم!
أنا لم أرَ حيفا ... و جدّي لم يرَ أي مدن العالم!"