العراقة والأصالة في قصائد ديوان "العِجزة" للأستاذ الشاعر أحمد الحاج
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
لقد بات البحث في شعر الاستاذ أحمد الحاج، من الأمور الفريدة نظراً لغنى التجربة وتنوعها وتعدّد صورها الفنيّة.
فهو يمسك بالريشة، ليرسم باللغة، أجمل اللوحات، وتكاد موسيقاه تعزِف بانفعالات القصيدة وانتقالاتها وذبذباتها الداخلية، وتتوزع في دروب الفن، خصوصًا وأنه يتقن حرفة الشاعر ويتطلع نحو الشفق، مبحراً ضد التيار ومعه أحيانًا، متمكنًا من أدواته، مطوّعًا اللغة لتستجيب لجمالية القصيدة، حتى بلغت اللغة على يده مستوىً وبُعدًا راقيين، مُشَذّبة، مصقولة وبالغة الدلالات والتحديد، وذات ايقاع درامي جديد وخاص، وانعكاس فكري ثوري في أحيان غير قليلة، حتى كأنكَ تعيد اكتشافها على نحو لم يكن مألوفًا عند الكثيرين، بمن فيهم أولئك الذين يملكون ثروة لغوية كبيرة. وقد وصل الأستاذ أحمد الحاج الذروة في ابداعهِ الشعري المتميز في ديوانهِ الجديد "العِجزة"، وذلك كسابق عهدِهِ في مجموعاتهِ الشعرية الأخرى التي توَّج جمالياتها بهذا الديوان الذي يستحق عليه شاعرنا كلّ إعزازٍ وثناء وتقدير لما يتضمنه من قصائد تتلألأ فيها المعاني ثريةً بالوهج والإشراق الأدبي والفكري مجسِّدًا فيها مواقف تناول من خلالها مشاعره التي اعتملت في صدره وعبّر عنها بالفاظٍ نيرّةٍ ومعانٍ خيّرةٍ.
لعلَّ ابرز ما في ديوان "العِجزة" تلك الواقعية التي استمد شاعرنا مادتها من الحياة، فصوّر مناحٍ وجوانب حياتية اجتماعية انسانية على صُعُدٍ خاصة وعامة، فكان صادقًا منصفًا حكيمًا في توجهاتهِ وتوصيفاته، كما أنَّ تصويره تصويرٌ واضحٌ جليٌّ لاخفاء فيه، بعيد عن المبالغة والتعقيد، فمعاني الشعر واضحة جزلة الألفاظ، ولا شك أنَّ الشفافية والوضوح أثران من آثار صفاء الذهن واعتدال المزاج، وهما يدلان على عقلية هادئة مستقرة لا اضطراب فيها ولا قلق، فلا غموض ولا تفلسف وهذا يدل على رقي عقلي وعناية فنية ومهارة في صناعة الشعر وصياغة معانيه وصورهِ.
إنّ أسلوب الأستاذ أحمد الحاج الشعري، الجمالي الأخّاذ يعود الى قدرة شاعرنا على استنطاق مكنونات اللغة العربية وتفجير ينابيعها بناءً وتركيبًا، على نحو يمكن القول معه إنها من "أحمديات العربية" القابلة للرفد والتجديد وكذلك بطبيعة الموضوعات التي عالجها شاعرنا في هذا الديوان بجميع المستويات الوطنية الداخلية والقومية العربية والانسانية الكونية.
وشاعرنا الأستاذ أحمد الحاج بحكم كونهِ "حالة شعر" فنًا ومزاجًا، لا يكتفي بالذاكرة فحسب، بل تشكّل التجربة أحد أركان انتاجه الإبداعي، فالأستاذ أحمد الحاج في العديد من قصائده في هذا الديوان رجل الثورة الذي التزم قضية الشعب والوطن، وانتصب مدافعًا عن المظلومين، مناضلاً ضد انقلاب المعايير والموازين الاجتماعية خلقيًا وانسانيًا، فيهاجم أولئك الذين يمارسون مثل هذه الأخلاقيات في صراحة جريئة وعنيفة، معبّراً عن غضبة ثائرة يترجمها في التركيب وتخيّر اللفظ حيث نلمس ذلك في الأبيات التّالية من قصيدة "ألق الماضي ومرارة الحاضر وغيابة الغد" (ص 16):
ويلٌ لأمَّتنا تختانُ صالِحها وتُكْرِمُ الساقطَ الخَّوانَ فاسِقها
تعسًا لأمَّتنا، اسْتَعْدَت بخِسَتِها على الشقيقِ عدوّاً هدَّ عاتقها
وفارسٌ نجدٌ بيضٌ صناِئعُهُ أَنغُمطُ الحاميَ الأوطانِ، عاشقَها
ألا يحلُّ من العلياءِ منزلةً ألا يُزَيِّنُ مرقاها ومفرِقَها؟!
إن بعض قصائد الأستاذ أحمد الحاج في هذا الديوان ملاحم تزدحم فيها مآسي الحياة، فمن ملحمة الظُّلم الى ملحمة الظُلمة الى ملحمة الشهيد، الى غير ذلك مما ينقل القارئ أو السامع الى عالم من العنفوان تتلاطم فيهِ الأمواج الثائرة والمثيرة، وتزّجُ بهِ في تيار العناد والمقاومة دفاعًا عن الانسان عامةً والعربي خاصةً وعن حقوقهِ المهدورة في بلادٍ كانت رائدة رقيّ وحضارة وإنسانية، وأصبحت ميدانًا للفساد والتعسُّف والاستبداد. وهذه المعاني تتجلّى في الأبيات التالية من قصيدة "سوريا النار والنور" (ص 69):
غلاةُ البغي والطُغيانِ شبُّوا على قهرٍ، وما ازدجروا، وشابوا
مَضَوْا في غيثَّهم، والظلمُ نهجٌ، وطِبُّهم افتتانٌ واضطرابُ
أساؤوا للشعوبِ، وحيثُ حلّوا فحرمانٌ وذلُ واغترابُ
وسوريا الحضارةُ دفقُ نورٍ لها الجوزاءُ عرشٌ والسحابُ
مدى الأجيالِ رسَّخها حضورٌ مُشعٌّ في أصالتها مُذابُ
حروفُ الأبجديةِ رقَّشتها وسادَ الغربَ اظلامٌ وغابُ
وللعمرانِ تاريخٌ أغرٌّ وجِدمٌ لا يُزعزعُ وانتسابُ
وراياتٌ لها خفقَتْ بعزٍّ تتيهُ بها اذا خفَقتْ رحابُ
من اللافت أن شعر الأستاذ أحمد الحاج عبارة عن قصائد طويلة في هذا الديوان كما في دواوينه السابقة، واذا جئنا الى هذه القصائد الطويلة في ديوان "العِجزة" نجد أنَّ شاعرنا قد هيّأ لها كل أسباب فنّهِ ومواهبهِ لا سيّما وأنّه قد اعتمد وحافظ على الوحدة الموضوعية، أو الوحدة المعنوية للقصيدة، ففي هذه القصائد الطويلة نجد وحدة متناسقة وترابطًا بين أبياتها وتلازمًا في معانيها بحيث لا نستطيع أن نستغني عن بيتٍ فيها في موضعهِ الذي حدّده الشاعر. فالوحدة المعنوية في القصيدة الطويلة هنا وحدة متقنة، وأجزاء القصيدة جاءت ملتئمة الأجزاء قد نسقّت احسن تنسيق واجمله واشده ملائمة للموسيقى، فكل قصيدة في هذا الديوان بكونها قصيدة طويلة هي بناء متقن محكم لا نستطيع أن نقدّمَ فيه ونؤخرّ أو نضع بيتًا مكان بيت دون أن تفسد القصيدة ونشوه جمالها، ودون أن نفسدَ البناء كلّهُ وننقضَهُ نقضًا.
وهكذا نجد الصلة وثيقة بين موضوعات القصيدة الواحدة في هذا الديوان، فكل جزء فيها يذكر بجزء بعده ويستجيب لجزء قبله، فاذا المعاني موصولة يأخذ بعضها برقاب بعض، لأنّ الأفكار متداعية وذلك لأنَّ شاعرنا قد أحسن الربط بين الموضوعات ولاءَم بين الأجزاء، ولم يكن في القصيدة قطع أو بتر أو خلل واضطراب، فشاعرنا شاعر مُجيد فائق الإتقان للغته وشعره، فهو يحسن وصل فكرة بأخرى بحيث تبدو امتداداً لها.
وأخيراً وليس آخرًا، فإننا في ديوان "العِجزة" قرأنا شعراً خصبًا زاهيًا جزلاً متينًا، ينزل من النفس منزلاً رفيعًا، فهو قد صوَّرَ خصال الخير كما بيّن دواعي الشر مُرَغِبًّا بالفضائلِ والمكرمات، ولمسنا ما لشاعرنا الاستاذ أحمد الحاج من مواهب شعرية تمنحه مقامًا رفيعًا في دنيا الشعر والأدب. فهو فيّاض القريحة يتدفق الشعر عنده كما من ينبوع غزير، وميزته الكبرى أنّه حيّ الشعور، وأنَّ شعره تعبير صادق عن وجدانه وعن شعور مستكنّ في أعماق ضميره، ويترجم عمّا يجيش في نفسه من حسّ صادق أصيل لا تصنُّع فيهِ ولا تكلُّف، فَلا عجب اذا ما صوَّر في كثير من أشعارهِ الآم الشعب وبؤسه واحزانهِ ومعاناتهِ بفعلِ الواقع المرير الملموس في حياة الأمّة العربية. وهكذا يكون شاعرنا الأصيل أحمد الحاج قد قدّم في هذا الديوان، كما عوّدنا دائمًا، شعرًا مكللاً بكل قيود الفن الرفيع من وزن وقافية ولغة وأسلوب وموسيقى وجمال وأداء ينسِّم بالحماسة العالية، والايمان النابض بالحياة، والرونق التعبيري رفيع المستوى ذي النزعة الكلاسيكية رحبة الآفاق رائعة الجَرْس، ذات اللهجة أصيلة المصدر التي فيها من الحرارة والدفع والفاعلية ما يُعْجب ويثير المتلقي.
فلشاعرنا وأستاذنا أحمد الحاج خالص المحبة والتحيات، مع أطيب التمنيات بموفور الصحة والعمر المديد وبالمزيد من التوفيق والعطاء.
تشرين الثاني 2017