تنّورتهم وتنّورتنا د. حاتم عيد خوري
شاركتُ قبل ايام قليلة في الحفل التكريمي الذي دأبت وتدأب بلدية حيفا، على إقامته سنويا في فندق دان كرمل، إحتفاءً بحمَلة وسام "عزيز حيفا". كما كنتُ قد شاركت ايضا في احتفال إضاءة شجرة عيد الميلاد في ساحة كتدرائية الروم الكاثوليك في حيفا. بعضُ ما دار في كل من هذين الاحتفالين، اعادني بالذاكرة الى احداث جرت في سنوات خلت، ربما لان شأني في هذا المطلّ من العمر، هو كشأن كل من يصبح ماضيه ابعدَ افقا واوسعَ مساحة من مستقبلِه.
كانت مديرة التشريفات في بلدية حيفا تقف في ردهة فندق دان كرمل لاستقبال المحتفَى بهم، ثم دعتنا للدخول الى قاعة الاحتفال. جلسنا حول طاولات مستديرة تتسع الواحدة منها لعشرة اشخاص. لاحظتُ ان معظم الذين انتظموا حول طاولتي، كانوا قد اشتركوا في حفل السنة الماضية ايضا، مما جعل احدَهم يقول انه لا يصدِّق ان سنةً كاملة قد مرّت منذ احتفال السنة الماضية، مضيفا بانفعالٍ وهو يحاول إعتقالَ تنهيدةٍ بدت متململةً في صدره: "يا الله ما اسرع الوقت!". هذه الملاحظة الانفعالية نالت موافقة المشاركين في المحادثة، فذكّرتني بخاطرةٍ كنت قد كتبتُها قبل عدة سنوات ولم انشرها، حيث قلتُ في مطلعها:ُ
" الايام تمرّ والسنوات تتوالى والعمر يتقدم بنا. والغريب اننا كبشرٍ نتعامل مع الحياة وكأن مخزون الايام والسنوات لا ينضب, وكأن العمر لا ينتهي. إنها اللاواقعيّة. أليس كذلك؟. هذه اللاواقعية بالذات، انا اعتبرها نعمة واتصورها دفيئة تحتضنُ الاملَ الذي يُكسِب حياتَنا معنى خاصا ويعطي الواحدَ منا عزيمةً وارادةً لشقّ سبيله ولتمهيد الطريق لأولادِه. غير ان هذه اللاواقعية بعينها تصبح في ظل الكهولة ومنظورها، واقعا حقيقيا يزعجُ المغفّلين ويقضُّ مضاجعَهم ويغلّف نفوسَهم بكآبة وتخاذل، فنسمعهم يولولون قائلين: " ايامٌ مرّت كلمح البصر، وسنواتٌ توالت منسابة كحبّات مسبحة قُطع خيطُها، وعمرٌ استسلم ربيعُه لخريفه". اما العقلاء فانهم يَقبلون هذا الواقع لا بل يداعبونه برضا واكتفاء ويسلّمون به دون ان يستسلموا له...".
اما الامر الآخر الذي تذكرته، فكان اثناء مشاركتي في احتفال إضاءة شجرة عيد الميلاد. كنت اقف في ساحة الكنيسة مع مجموعة من الناس المشاركين في الاحتفال، الذين اجمعوا على ان إضاءة شجرة الميلاد قد اضحى تقليدا شائعا ومستحبّا رغم كونه تقليدا مستحدثا في الكنائس الشرقية، بتاثير الحضارة الغربية التي وصلت الينا او فُرضت علينا...هذه المعلومة قد اثارت ، كما يبدو لي، فضولَ احدِ الشباب الصغارالذي توجّه اليَّ، ربما لانه رأني اكبرَهم سنّا، قائلا: "إذن كيفْ كنتو تعيدو عيد الميلاد؟". هذا السؤال البسيط حملني على اجنحة الذاكرة في جولة ميلادية خاطفة من فسوطة الى لندن مرورا بالناصرة فالقدس فحيفا.
فمن مرابع طفولتي في فسوطة حيث لم يكن تقليد نصب شجرة الميلاد معروفا، او على الاقل شائعا في الاربعينات والخمسينات، الى القسم الداخلي في كلية تراسانطه في الناصرة، حيث تعرفتُ الى شجرة العيد، وشاركت ككل زملائي في القسم الداخلي، وعلى امتداد اربع سنوات متتالية، في احتفالٍ متواضع تقيمه إدارة الكلية امام شجرة العيد التي كانت تُنصب في الردهة الفاصلة بين مكتبي المدير العام للكلية والمدير التنفيذي (administrator). ومن الناصرة الى فترة الدراسة الجامعية في القدس في اواخر الخمسينات ومطلع الستينات(اي ما قبل سنة 1967)، حيث كانت شجرة الميلاد محاصَرةً داخل اسوار دير نوتردام الذي كنّا نقصدُه كموقعٍ نطلّ منه على البلدة القديمة واسوارها... ومن هناك الى بيتي في حيفا حيث كنت احرص على نصب شجرة سرو صغيرة طبيعية كانت تهديها لي سنويا بلدية حيفا. ان تعرّفي على شجرة الميلاد وتعاطيَّ معها بقِيَ في إطار الحيز الخاص، حتى وصلتُ الى جامعة لندن طالبا للدكتوراة في اواخر سنة 1981، حيث شُدهتُ واسرتي، برؤية الزينة في الشوارع والميادين العامة وعلى اشجار الميلاد في ميادين لندن كميدان ترافلجار(Trafalgar Sqaure) وبيكاديلي (Piccadily Circus) وغيرها وفي المراكز والمجمعات التجارية الكبرى...
واذا كانت الزينة في الحيز العام في لندن، قد فتنت ابصارَنا، فإنَّ ما ابدته عائلاتٌ بريطانية نحونا في اعياد الميلاد الثلاثة التي عشناها في لندن، قد لمست افئدتَنا واثرَت انسانيتَنا ووطدت علاقاتنا مع المجتمع الاسري البريطاني. كانت البداية في اواخر شهر تشرين الثاني(نوفمبر) 1981، اي بعد وصولنا الى لندن بنحو اربعة اشهر. رنَّ التلفون في بيتي في حي ويمبلدون(Wimbledon). كان على الطرف الاخر سيدة قدمت نفسها باسم Mrs. Millman. بعد ان تاكدتْ من اسمي، قالت انها مدرِّسة وزوجها محاضر جامعي، ولديهما ولدان ويسكنون في مدينة Tonbridge، ثم اضافت: " يسرنا جدا ان نستضيفك انت واسرتك في بيتنا، لقضاء عيد الميلاد معنا". كدت لا اصدق ما اسمع، وظننتُ للوهلة الاولى بان الامر مجرد مقلبٍ بعيد عن الواقع. لكن جدّيّةَ لهجتِها ورصانةَ صوتها قد بدّدت ظنوني، سيما بعد ان اوضحت لي بانها عضوٌ في رابطة عائلات بريطانية اخذت على عاتقها مسؤولية استضافة طلاب اجانب، بصرف النظر عن جنسيتهم ومذهبهم، في فترة عيد الميلاد تخفيفا لشعورهم بالغربة، وانها قد حصلت على اسمي ورقم هاتفي من مكتب عميد الطلبة في جامعة لندن. أما عيدا الميلاد الآخَران فكانا على التوالي في ضيافة عائلة Dennis في قرية Snailbeach، وعائلة Russell في قرية Kingussie في Scotland.
برنامجُ الزيارة في الحالات الثلاث كان متشابها تقريبا. كان وصولنا بالقطار القادم من لندن الى اقرب محطة قطار من بيت العائلة المضيفة، عشية يوم العيد اي بعد ظهر24 كانون الاول (ديسمبر)، حيث تكون العائلة المضيفة في استقبالنا لتنقلنا بسيارتهم الخاصة الى البيت. اما المغادرة ففي مساء اليوم التالي للعيد (اي 26 ك1) المعروف لديهم باسم Boxing Day اي يوم فتح الهدايا. لقد حرصت كلٌّ من العائلات المضيفة على توفير كافة وسائل الراحة لنا، فمن وليمة العيد الى الاطعمة والمقبلات التقليدية والالعاب التربوية والترفيهية للاولاد، وهدايا خاصة لكل واحد منا وتنظيم جولات في المحيط القريب. وهكذا سرعان ما كان التكليف يُرفع بيننا لتُبنى اواصرُ صداقةٍ ويتمّ تبادلُ زياراتٍ بيتية وتطوير علاقات وديّة ما زالت قائمة حتى يومنا هذا. رغم هذا التشابه بين الزيارات الثلاث، إلا ان الزيارة الاخيرة كانت فيها ما يميّزُها عن الزيارتين الاوليين، ليس لكون Kingussie موجودة في اقصى شمال بريطانيا، إنما لكونها في اسكتلندا بالذات التي تتميز عن غيرها من بلدان المملكة المتحدة((United Kingdom جغرافيا ومناخيا وحضاريا و... ، ولعل التنورة الاسكتلندية (Kelt) التي يصرُّ الرجالُ الاسكتلنديون على ارتدائها (هم وضيوفهم من الرجال) في المناسبات الوطنية والرسمية سيما في ليلة عيد الميلاد وخلال وليمة العيد وقداس نصف الليل، هي خيرُ مثالٍ على ذلك.
وهكذا عندما ارتديت انا وولديَّ امير وسامي، اللذان كانا آنذاك في سن 12 و 6 على التوالي، التنانيرَ الاسكتلندية (Kelts)، ضحكتُ لاني تذكرت قصة دعّاس الذي "ضُبط" مرةً "وهو يجلي الصحون في مطبخ بيته، ومرة اخرى وهو يشطف الارض، فلقّبَه اهلُ الضيعة تندّرا "ابو تنورة" واصبح معروفا باسم "دعاس ابو تنورة". لكن ضحكتي تلك، سرعان ما تجمّدت على شفتيَّ وانا اتساءل: " وهل شكل التنورة في اعيننا رمز نقيصةٍ وميوعةٍ وفي اعينهم رمز كمالٍ وصلابة؟