الجوانب الروحية والصوفية في كتابات
الدكتور منير توما
لقد اخترت في مداخلتي هذه أن أتناول ثلاثة من الكتب الخمسة التي أصدرها الدكتور منير توما مؤخراً حيث سأتطرق في حديثي هنا إلى مجموعتيه الشعريتين "قلوب شفّافة" و "صور وظلال" بالإضافة الى جولة سريعة موجزة حول ترجمته أشعار جلال الدين الرومي من الانجليزية الى العربية والتي تعكس وتجسّد صوفية الرومي فائقة الشهرة عبر العصور.
ومن المهم أن أشير بادئ ذي بدء إلى أنني سأركِّز دراستي الموجزة هذه على الاتجاهات الروحية والصوفية في شعر الدكتور منير في المجموعتين الأخيرتين المشار اليهما، وفي أشعار جلال الدين الرومي التي اختارها شاعرنا للترجمة.
يتضِّح من قراءتنا لمجموعة "قلوب شفافة" أنّها تتضمن بعض القصائد التي تمتاز بنزعة التصوف وبروحانية ملموسة. وهذا الأمر في رأينا نابع من خبرة شاعرنا التلقائية الواقع أوسع يتخطّى ويتجاوز الأفق المحدود للوجود العادي ليعمّقه ويملاه بالبهجة والمعنى الانساني المتواصل مع النور الالهي وإشراق الذات الربانية.
فإذا نظرنا الى قصيدة "ومضات تصوُّف" (ص 17) نلمس من خلال الكلمات والايحاءات المستنبطة أنَّ الشاعر يقدِّم تجسيداً حيَّاً للحب والعشق الالهي بطل جمالية الروحية والنفسية التي تعود على الانسان بالتحرّر وفرح الروح. وهذه المعاني تتأطر في المقطوعة التالية من القصيدة حيث جاء فيها :
أن أرى فيكَ الجمالْ
في لحظةٍ فقدتُ فيها نوراً
ومالتِ النفسُ نحوَ الضلالْ
ألوذُ بعفوك كُلَّ ساعةٍ
وأنا أتوقُ هنيهة الى الكمالْ
فلا تُخَيِّب رجاءً
يبغي فيهِ قلبي الوِصالْ
الى حبيبٍ تناهى في الحُبِّ
وأحْسَنَ فينا المقالْ
فيا ربُّ انزَعْ ضغينةً
غَزَتْ نفوساً بالنِبالْ
لأنَّ الحُبَّ حديقةٌ
تروى زهورها باليمينِ وبالشمالْ
وَدَعْني أُغنّي أُنشودةً
تتماهى مع أجملِ الأشكالْ
دونَ أن أنسى حبيباً
حرَّرني من ظُلْمةِ الأغلالْ
فهنيئاً لي ربّي
لأني عليكَ دائمُ الاتكالْ
وحياتي تصبو إليكَ
لا تطلبُ ضَعُفاً ولا هَزالْ.
إنّ هذه القصيدة تبيّن مدى إيمان الشاعر بالقدرة والعناية الربانية تجاه الإنسان الذي يبغي توثيق وتمتين علاقته الروحية بالرب لأنَّ الله في منظور الشاعر بإستطاعته أن يقود بني البشر الى الادراك الروحي وتمكينهم من تطبيق فضائية الإنسانية المرتبطة بالمحبة الالهية الرافضة للبغضاء والكراهية من خلال الإتكال الإيماني على القدرة السماوية بكل تداعياتها وتشعباتها.
وفي قصيدة "صوفية علماني" (ص44) يتجلّى العشق الإلهي بأوضح صورهِ وأبعادِهِ، ففيها يتكشّف الالهي ويتمظهر بقدرٍ ما من النفيض الى العالم الحسي، ولكن الى حدٍ ما بحيويتهِ ولونهِ، فنحن نستشعر في سطور شاعرنا الحقيقة أنّ الله مبهج للحواس وباعت النشوة في القلوب، فهذا العالم بكليتِه مملوء بالله وبنوره الذي لا يخبو في قلب المبادر الى العشق الإلهي المندمج بالذات الالهية. وفي هذا السياق يقول شاعرنا:
أُصلي للجمالِ فيكَ يا الله
أُصلّي، وأعرِفُ أني في قلبكَ
ما دامتْ روحي تناجي روحَكَ
أرنو إليكَ وفي صدري لهفةٌ
الى كُنْهِ قُدسِكَ
أيُها النورُ الآتي
من حُرِّيةٍ لا تنتهي
بكلماتٍ يطلقُها الإنسانْ
أو يُمارِسُها عُبّاد الأوتانْ
فذاتي قد اشتاقتْ
الى نارِ حُبِّكَ
تتلّظى في قلبٍ
أعيَتْهُ الأحزانْ
ودموعي تنهمرُ دافئة
كي تتحد مرآةُ عيني
بصُوَرٍ أبدَعَها الرحمنْ
واذا انتقلنا الى مجموعة "صور وظلال" نلتقي بقصيدة "معاينة روحية" (ص101) التي تتسم بشعور الاحباط وخيبة الأمل من الكثيرين من الناس من جهة، والأمل والتفاؤل من الجهة الأخرى اللذين يجود بهما الرب بكونِه ملاذًا محرّرًا للإنسان المبتئس من الضيقات والسرور، فهو الذي يمتاز بالطيبة والرحمة والحنان حيال عباده الذين لا يدرك الكثيرون منهم أنهم لن يهربوا أبدًا من عذاب الضمير وناره في يومٍ من الأيام. وهكذا نرى شاعرنا في هذه القصيدة في ثوب إنسانٍ متصوِّفٍ يفرّغ نفسه من شعوره بالذات جاعلاً ومعتبراً الله كينونته، فهو يشعر وكأنه كائن مُقيّد بأواصر الحب أو الاتحاد الصوفي، فالله بالنسبة له هو كل شيء وفي كلِّ مكان. ولعلّ السطور الأخيرة من قصيدة "معاينة روحية" هذهِ تختزل المعاني التي قصدها الشاعر حين قال:
دَعْني يا ربُّ أنعمُ كلَّ يوم أنعمُ كل يومٍ بعِطْرِ زهرةٍ
مقطوفةٍ من بستانِ محبتكَ عابقاً بالزيزفونْ
أقولُ ذلكَ لا أرتجي مكافأةً
بل إنني أصبو إلى حُرّيةٍ فيحاءَ دونَ حُصونْ
واذا كُنتَ يا خِلّي تتألمُ وتتعذّبُ
فانتظرْ رجاءً من العلياءِ يُحرِّكُ من رُهابِ السُجونْ. وحينما تتفاقمُ الالامُ وتدفَنُ وجهكَ في الوسائدْ فلا تبحتْ عن طيبَةٍ في البشَر، بل عن رحمةِ الله الحنونْ فنحنُ مهما فَعَلْنا سنصمتُ أخيراً وتعظُمُ ذنوبُنا لأننا الى نارِ الضمير قادمونْ.
ونختم بحديثٍ مقتضب عن كتاب مختارات من أشعار جلال الدين الرومي "الذي ترجمه شاعرنا عن الانجليزية الى العربية والذي كُتبت أشعاره أساساً بالفارسية، فمن هذه القصائد المترجمة ننتقي مقطوعة من قصيدة "إلزام الحب" (ص 44) الذي يقول فيها الرومي :
لقد تكلّم الله في أذن الوردة
وجعلها تضحك بإزهارٍ كامل
لقد تكلّم الى الحجر وجَعَلَهُ ياقوتةً
لقد همسَ الى الجسد، وملآه بالروح.
لقد غنّى الى الشمس، واصبحت مَشِعَّة
بتحذيرٍ طفيفٍ منه،
مئة من حالات الكسوف تغطي وجهها
فكِّرْ مَليّاً بما يمكن أن يكون قد غنّى
في أذن السحابة،
بحيث أنها امطرتْ دموعاً غزيرة من عينيها.
يتضّح من سطور هذه القصيدة أنَّ جلال الدين الرومي الذي يعتبر من اعظم شعراء الصوفية، إنْ لم يكن أعظمهم في الشرق، قد صوّر بأوصافهِ مبدأ حلول الله في كل شيء مما يؤسس لمذهب وحدة الوجود التي ندرك فيها الله من خلال التأمُّل. إنَّ الرومي في السطور السابقة من هذه القصيدة إنّما يصوِّر الجمال الالهي المحبوب المحتجب خلف المظاهر والأسماء عبر الموجودات، ويضع الطبيعة في مقدمة هذه الموجودات معلنةً بهجتها وفرحها بوصفها صوراً لهذا الجمال، فجميع الأشياء تنطق بهِ وتعبِّر عنه. ومن هنا يصرّح الرومي في كينونة الله بحيث أنَّ هذا الجمال المطلق يسري في الكون دون حدود متجدّداً في صورهِ بفعل الله.
وهكذا يكون شاعرنا الدكتور منير توما قد طرق موضوعاتٍ روحية صوفية في عددٍ من قصائد مجموعاتهِ الشعرية هذه حيّزاً واسعاً لأغراضٍ شعرية متنوعة غَلُبَ عليها قصائد الغزل، الحب الانساني، الفلسفة الاجتماعية، الطبيعة والخير والجمال وغيرها.
عزت فرح كفرياسيف