شاركتُ قبل بضعة اسابيع وتحديدا في السادس من كانون الاول(ديسمبر) 2017، اسرةَ صديقي الاستاذ مصطفى، احتفاليتَهم بعيد ميلاده الثامن والثمانين، وبهجتَهم بكونه ما زال ينعم بصحة جيدة ويتمتع بذهن صاف يمكّنُه من استرجاع الماضي بسهولة، خصوصا الاحداث التاريخية التي تراكمت في ذاكرته على امتداد فترة عمله الطويلة معلما للتاريخ في مدرسة ثانوية. فكثيرا ما سمعتُه يستهلُّ تعقيبَه على حدث معين، بقوله: "والله ما صار شي، إلا صار قبلو"، مستشهدا بحدثٍ تاريخيّ مماثل ، او على الاقل مشابه، وكأنه اراد ان يقول: "التاريخ يعيد نفسه"، كما كان غالبا ما يضيف بتنهّدٍ في هذا السياق: " الله ينجّينا من الاعظم" تدليلا منه على تدهور الاحداث، من وجهة نظره، من سيءٍ الى اسوأ...
وهكذا عندما شاء تزامنُ الاحداث، ان يكون تصريح الرئيس الامريكي ترامب حول اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، في يوم ميلاد مصطفى ، فلقد وجدنا انفسنا، مصطفى وانا، جالسين برفقة آخَرين، قبالة شاشة التلفزيون، نستمع لهذا التصريح... رأيتُ وجهَ مصطفى يحتقن، فتوقعت ان اسمع منه مقولتيه المألوفتين عن التاريخ الذي يعيد نفسه بصورة اسوأ. لكنّ مصطفى قد بدا لي كمن لا يريد لهذا الموقف ان يعكّر مزاجه او "يبوِّظ" فرحةَ اسرته بعيد ميلاده، قائلا لي بابتسامة مغتصَبةٍ: "ان تصريح ترامب هذا، يذكّرُه بقصيدة احمد شوقي التي يقول فيها "...فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ...".
لا شك لديّ بان مصطفى قد قرأ علامة التعجب التي رسمها حديثه على وجهي، فاضاف: "ألم اقل لك انه ما صار شي إلا صار قبلو؟". تركني مصطفى في حيرتي لحظة، ثم تابع حديثه قائلا لي ان "لقاء" ترامب مع اليمين الاسرائيلي، قد سبقه "موعدٌ" زمنيّ إنطوى عليه قرارُ تقسيمِ فلسطين الصادر عن الجمعية العمومية للامم المتحدة في 29 تشرين الثاني(نوفمبر) 1947، والذي كان قد سبقه "كلامُ" بلفور في وعده (تصريحه) بتاريخ الثاني من تشرين الثاني(نوفمبر) سنة 1917، اي ان "كلام" وعد بلفور قد مهّد الطريق ل"موعد" مع قرار التقسيم، وهذا الاخير بدوره قد ادّى بنا الى "لقاء" مع تصريح ترامب..ألم نقل "فكلام فموعدٌ فلقاء"؟...
ضحكتُ، والاصح ضحكنا، لكنَّ انفعال مصطفى وحنقَه من هكذا موقف امريكي انحيازي بشكلٍ مطلق، كان عصيّا على الاخفاء. خشيتُ ان يتعكر مزاج مصطفى اكثر من ذلك ، فتفقد احتفاليةُ عيد ميلاده رونقَها. حاولتُ أن أغيّر مجرى الحديث، فوجدتُ بكلمة "تقسيم" وسيلةً لذلك. فقلتُ لمصطفى: "أتدري ان كلمة تقسيم تذكرني بمقولة: "ما عُمْرو مقسِّم دخَل الجنة" التي كانت ترددها المرحومة جدتي؟". فردَّ مصطفى بحماس شديد وبجدّية لم اتوقعها، قائلا: "هذا قطعـا صحيح عندما يكون المقسِّـم او الوسـيط، "مصلحجيا" انانيا كذلك القرد الذي ائتمنته قطتان على قسمةِ قطعةِ جبنٍ بينهما، فقسَّمها بصورة عشوائية الى قسمين، ووضعهما على كفتي الميزان وكلما رجح واحد من القسمين على الاخر، كان يقضم باسنانه بعضا من القسم الراجح ليعادله بالقسم الاخر... حتى قضى على قطعة الجبن كاملة"، او عندما يكون هذا الوسيط منحازا انحيازا كاملا لاحد الطرفين، او مغفلا فاقد القدرة على ابتداع حلٍّ يُرضي او، على الاقل، يساوي بين الطرفين".
كنتُ ادرك ان مجاراة مصطفى في موقفه والاسترسال في هذا الحديث التشاؤمي، سينكّد علينا سهرتنا، فقلت لمصطفى اني اوافقه الرأي بشأن "ان يكون الوسيط نزيها ومبدعا"، وهذا مما جعلني اتذكر قصة "باسل المنذور".
ولِدَ باسل في مطلع القرن الماضي لوالدين يسكنان في ضيعة جليلية. كان لولادته بعد ست بنات، وقعٌ خاص في نفس والديه وخصوصا امه التي اخذت تحلف "وحياة راس الوحداني" كلما ارادت ان تُقنع الآخَرين بصحة حديثها، وذلك بدلا من قسَمِها المالوف بالله وبالعذراء مريم وبالقديسين. هذا التغيير في صيغة كلمات القَسَم، لا يعني بالضرورة إنخفاض منسوبِ ايمانِ أمّ باسل، بقدرةِ الكنيسة كبيتٍ لله، على اجتراح العجائب، بدليل انها(اي ام باسل) استمرت في تقديم النذور الى الكنيسة كلما مرضت احدى عنزاتها او بقراتها او دجاجاتها، ولم تُجدِ الوصفاتُ العربية الشعبية نفعا. كانت ام باسل تسارع للوقوف امام باب الكنيسة وتدقّ عليه بكف يدها اليمنى، ناذرةً نصف الحيوان المريض للكنيسة. فإن مات المنذور، فـ"العوض على الله" أمّا إن تعافى، فان نصف ثمنه يُقدم للكنيسة.
تقديم النذور للكنيسة في اوقات الشِدّة، بات عادة متأصلة لدى ام باسل كما هو لدى معظم ابناء الضيعة. وهكذا عندما مرضَ باسل إبان فترة طفولته وتأزمَ وضعُه، وبعد استنفاد كافة الوصفات الشعبية المعروفة بما في ذلك كاسات الهوا والحجامة والبابونج والزوفا والميرمية ولزقات الخل والعجين وطش(سكب) الرصاص لعلاج صيبة العين فضلا عن حرق البخور واوراق الزيتون المتبقية منذ احد الشعانين..الخ، توجهت ام باسل كعادتها الى باب الكنيسة ومن "شفحة قلبها" اخذت تدق عليه، قائلة بصوت عال: "نُصْ باسل إلِكْ يا كنيسة" فاصبح باسل معروفا باسم "باسل المنذور"...
عندما اخذ باسل يتماثل للشفاء، كانت ام باسل تطير فرحا، معتبرةً ان هذا التطور الايجابي في وضعه الصحي، قد تحقق بفضل الكنيسة، وبالتالي فقد وجب عليها إيفاء النذر. لقد كانت ام باسل تشعر بسعادة غامرة وهي ترى "وحيدها" يترعرع على طريق الشباب، وقد اصبح في السابعة عشرة من عمره. ومع ذلك، كانت كلما تذكرت النذِر تشعر بغصة ومرارة، لا لانها تتنكر لنذرها، إنما لانها لا تعرف كم عليها ان تدفع للكنيسة مقابل نصف ابنها. فمن يستطيع ان يثمِّن ولدا؟ وهل الولد، كل ولد، يُثمَّن أصلا؟ فما العمل اذن؟ وكيف يمكن تقسيم باسل بحيث تاخذ الكنيسة حصتها؟. هذه الاسئلة اضحت، مع تعاقب السنين، ملحّة جدا، وباتت تقضُّ مضجعَ ام باسل. فإنْ شعَرَ باسل بوعكةٍ حتى لو كانت بسيطة، كانت امه تعتبر ذلك رسالةً سماوية تذكّرُها بانها لم "تفكّ" نذرها حتى الان، فتقول لمن حولها بصوت مسموع: " طَوْلي بالك يا كنيسة، علَيّ النذر وعليكِ الصبر"، الى ان قالت لها يوما احدى جاراتها: "بس للصبر حدود يا ام باسل!"..
ملاحظةُ الجارة او تلميحها قد زادت من قلق ام باسل ومن توترها، فقررت ان تتوجه الى خوري الضيعة الذي نصحها بطرح القضية على المطران حجار لدى زيارته الوشيكة الى الضيعة. كان المطران حجّار رئيسا لكنيسة الروم الكاثوليك في الجليل على امتداد نحو اربعة عقود (1901- 1940)، وكان معروفا بلقب مطران العرب، ومشهورا بورعه وحكمته وبكونه مبدّعا في حل المشاكل. استمع المطران الى قصة النذر ولمس ما تعانيه ام باسل من قلق، فاجابها مبتسما: "بسيطة. نزوّج باسل ثم نرسمه كاهنا ، فيكون نصفه الاول في خدمة اسرته ونصفه الثاني في خدمة الكنيسة". يقول الراوي ان باسل اصبح "ابونا باسيليوس"، وان ابانا باسيليوس هذا قد انشأ فعلا اسرة مباركة وانه قد خدم عدة رعايا في الجليل في الثلث الاول من القرن الماضي، فتكامل النصفان ...