الناظر الى هذا الكون بما فيه من مخلوقات حيّة وغير حيّة، ناطقة وبالارض وما عليها من هضاب وجبال ووديان ومنحدرات ومنخفضات ونباتات وخاصةً بنو البشر كلٌ يرنو الى الشموخ والرقي والارتفاع في كل فرصة تتاح له، وكذلك بالسماء وما بها لدى صفائها ولونها الازرق الفاتح والنجوم المتلألئة، وفي بعض الاحيان الغيوم الثقيلة والخفيفة هنا وهناك والتي تعطي السماء حلّةً أخرى، وكل من الناس يراها كما هي، إلأ أنه هو يراها كما يشاء ويحلل ويفكر بتكوينها كما يشاء.
وإذا نظر الانسان الى الناس قريبين أو بعيدين فأنه يلاحظ اذا ركّز جيداً بأن بني البشر لا يختلفون كثيراً عما تحويه الارض والسماء كما أسلفت، فهناك من هو جميل المنظر، القامة والنفس أيضاً، وآخر يتحلى بصفات حميدة خلاّقة، وسواه لا يطاق إذا تكلّم ولا إذا مشى ولا حتى إذا صلّى، وكذلك هناك المتعجرف والمتواضع، المتكبّر وخفيف الروح، القاسي ولين الجانب والعريكة، المثقف والجاهل الخ... من هذه النعوت والصفات.
كما أن المرء يصادف في حياته ومن حوله مجموعة من الناس والافراد الذين هم من نوع آخر من الرجال، فمثلاً ترى وتلاحظ عن كثب أن هذا النفر من الناس يرون منصبهم أو موقعهم الاجتماعي وسيلة للتكبّر والنظر من الاعلى الى الناس وربما الى أقاربه وذويه وكأنه قد الدنيا بموقعه وبوظيفته.
ورجل آخر يتبوأ مركزاً مرموقاً في الحياة الاجتماعية وله تأثيره الكبير – تراه نفسه كالديك الرومي ويلجأ الى تصرّفات غير مقبولة، تنم هذه التصرفات عن جوهره، فبدلاً من أن يحترم ويساعد يستغل هذا المركز بالنيل من هذا وذاك من خلال غباوته وتفكيره العقيم "إنه رجل قد الدنيا" ضارباً عرض الحائط كل الاعتبارات الاخرى. وفي ناحية أخرى نرى ثريّاً غنيّاً ربما كان قد ورث ثروته عن سابقيه وحصل عليها بدون عناء أو جدّ وكدّ، وسرعان ما أصبح من شامخي الرأس يظن نفسه أنه رجل قد الدنيا ... بإمكانه أن يحقق كل شيء بأمواله دون أن يفكر هنيهة قصيرة ويعود في تفكيره الى أصله الحقيقي ليتيقّن أن الامر ليس كذلك ويدرك أن الثروة أو المال يأتي ويروح أدراج الرياح – أما جوهر الانسان فهو الكنز الحقيقي الذي يتميّز به المرء عن غيره.
وربما يرى المرء أيضاً موظفاً مسؤولاً في مؤسسة معينة صغيرة، بسيطة ومن تصرفاته وتعامله يتيقّن ويدرك هذا المرء أنه يظن نفسه رجلاً قد الدنيا وأنه لا يمكن لأحد مجاراته أو مساواته والتشبه به... نتيجة لما يطلق من معالم الوجه والتعامل الفعلي على أرض الواقع.
والامثلة كثيرة في مجالات الحياة المختلفة من أصغرها الى أكبرها وبين ظهرانينا جميعاً، هناك من يعرفها ويتجاهل وجودها وآخر لا يعرفها ولا يعرف أنه لا يعرفها، فالى كل هؤلاء نقول : يترتب على المرء الاّ ينظر الى مركزه، منصبه، ثروته غناه، مسؤولية وأنما يجب اولاً وقبل كل شيء على المرء ان يعرف مقدار نفسه من الناحية الانسانية الصحيحة، وما يملي عليه ضميره قبل كل شيء، لأن الانسان لا يقاس بوظيفته ولو ظنّ أنه رجل قد الدنيا !!! ، وكذلك الغني لا يقاس بماله وثروته ولو ظنّ أنه رجل قد الدنيا !!! ولا المسؤول أو الموظف كذلك، وإنما مقياس الرّجال ليس بذلك وإنما بمدى ما يتحلى به هذا المرء من الاخلاق الحسنة بالجوهر السليم، بالضمير الحي، بالامانة بالتعامل الانساني، بالعقل الرزين وبالتواضع، ومع كل هذا لا يمكن أن يكون هذا الرجل أو ذاك قد الدنيا، فالذين يفكرون هكذا عليهم تقييم أنفسهم من جديد ووضعها في مكانها وحجمها الحقيقي، والاّ فلا فائدة ولا مستفيد ولا عماد ولا مستقبل وإنما العكس هو الصحيح.