المعاناة الشعورية في تجربة حبٍّ خائبة
قراءة في رواية "تشرين" لتغريد الأحمد
بقلم: الدكتور منير توما
كفرياسيف
إنَّ أولَ ما يستوقِفُنا بعدَ قراءةِ رواية "تشرين" للأخت تغريد الأحمد هو تلكَ الصفةُ الاستثنائيةُ للحبِّ الإيروسي أو ما خَصّصَ العربُ له لفظَ "العِشق" للإشارة الى "مجاوزةِ الحدِّ في الحب". وقد لمسنا في هذه الرواية هذا النمطَ العنيفَ من الحبِّ أو الهوى الصادرِ بكثافتهِ وزَخَمِهِ من جانبِ بطلة الرواية تجاهَ حبيبها أو عشيقَها بالشكل الغامر الذي تصورُهُ لنا في أجواءِ الرواية دونما أنْ تذكرَ اسمَ هذا العشيق على مدار الرواية، وانّما أبقت التحدثَ عن شخصهِ وممارساتهِ وعلاقاتهِ بها في إطارِ معرفتنا له بوصفهِ ذلك الرجل معشوقَها كما يظهرِ لنا من تفاصيل القصة.
إنَّ حبكةَ الروايةِ من حيثُ البناء والتركيب تمتازُ بالبساطةِ والبعدِ عن التعقيدِ فهي قصةُ فتاةٍ أَحَبَتْ رجُلاً في الأربعينَ من عمرِهِ يكبرُهَا بخمسَ عشرةَ سنةً بعدَ أنْ تعرفَتْ عليهِ من مقابلتِها لَهُ صدفةً في بيتِ شقيقتِهِ سلمى حيثُ تعلّقتْ بحُبِّهِ بولعٍ شديدٍ حتى العبادة دونَ أنْ يكونَ متقبّلاً لفكرةِ الزواجِ التي كانتْ تَحْلُم بها إلى أنْ انتهى الأمرُ بِهَا أخيراً الى الإحباطِ وخيبةِ الأملِ لتنفصلَ عَنْهُ نهائيًا بعدَ هذهِ العلاقةِ متعدّدةِ السنواتِ الطويلةِ لتعيشَ حياتَها مستقلةً عَنْهُ فيما هو ما زالَ يَحِنُّ اليها بحرارةِ العاشقِ المهجورِ رغمَ أنَّ لَهُ العديدَ من العلاقاتِ والمغامراتِ النسائيةِ العاطفيةِ فقد كانَ نموذجًا للإنسانِ المُسْرِف في الاستمتاعِ بمباهجِ الحبِّ والجِنس.
لقد توهمتْ بطلةُ الروايةِ أنَّ حياةَ الحبِّ إنّما تقومُ على الامتزاجِ والانغماسِ والاتحادِ التام بالحبيبِ المعشوق، لكنَّها تناستْ أنّ فناءَ المُحِبِّ في المحبوب إنّما يعني سقوطَ كلِّ علاقةٍ بينهما، وبالتالي إنهيار الحب نفسه. والواقع أنَّ الحبَّ حينَ يستحيلُ هو نفسُهُ منها الى ذلك الآخر المعشوق، فإنّهُ عندئذٍ إنما يفقدُ موضوعَهُ، لكي يصبحَ غيرَ ذي موضوعٍ. وهذا ما حصلَ في حالةِ بطلةِ الروايةِ مع حبيبها. والنصُ التالي من الرواية (ص 85) يؤطِّرُ لهذه المعاني من خلال ما توردُهُ البطلة:
"إذن، في الحب، نحن نحبُّ الشعور بالحب ومن ثمَّ نحبُّ انفسَنَا من خلالِ الآخر. حبنُّا للشخصِ نفسِهِ هو وهمٌ وليسَ حقيقةً. الحبُّ يتغذى من خلالِ ما يُنْقِصُ العلاقةَ وليس من خلالِ ما هو موجودٌ فعلاً فيها. لذلك الحبُّ مرتبطٌ دائمًا بالعذابِ و "العنف والتهجم" ضدَ الآخر، الذي من المفروض أننا نحبُهُ، فلماذا نهاجمُهُ؟
لأنّ الحبَّ يتغذى من النقصِ غيرِ الموجود وليس مما هو فعلاً موجودٌ في العلاقة!".
إنَّ الحبَّ الذي ربطَ بطلةَ القصةِ بحبيبها معشوقَها هو دونَ أدنى شك شكلٌ واضحٌ من الحبِّ الجنسي. إنّ حبَّ العاشقيْنِ في الروايةِ هو في الواقع أنانيةُ اثنين، إنَّهما يتحدانِ معًا ويَحُلاّنِ مشكلةَ الإنفصالِ بتوسيعِ نطاقِ المُفْرَد الى اثنين. الحبُّ الجنسي هنا استثناءٌ، لكنَّهُ يُحِبُّ في الشخصِ الثاني البشرية جَمعاء، وكلَّ هو حيٌّ. انّه ليس استثناءً إلاّ بمعنى أنّ الإنسانَ يستطيعُ أن يّدْمِجَ نفسَهُ على نحوٍ كاملٍ وشديدٍ بشخصٍ واحدٍ فقط. الحبُّ الجنسي لا يستبعدُ الحبَّ للآخرين إلاّ بمعنى الاندماجِ الجنسي، الالتزام الكامل بجميع جوانب الحياة.
الحبُّ الجنسي، لو كان حُبًّا، له مقدمةٌ واحدةٌ، أن الإنسانَ يحبُّ من جوهرِ وجودهِ – ويعيشُ الشخصُ الآخر في جوهرِ وجودهِ أو وجودِها، فالحبُّ مفروضٌ فيهِ أنْ يكونَ المحصلةَ لردِّ فعلٍ انفعاليٍّ تلقائيٍّ، المحصلةَ للسقوطِ الفجائي في شَركِ شعورٍ لا يُقاوم. وفي هذا لا يرى الانسانُ سوى الخصائصِ المتفردةِ للفرديةِ المتعلقينَ معًا. وهذه المعاني جميعًا يختزلُها أحدُ النصوصِ ذات اللغة الشعرية التي صاغتها الكاتبة على لسان بطلة القصة في بدايات الرواية (ص 36):
"أحبُّكَ جمالَ المطرِ
وقسوةَ الأعداءِ
أحبُّك جدًا
وحينَ أحبُّكَ، أستطيعُ أنْ أٌحِبَ جميعَ الناس.
الأبرار منهم، والأشرار
أستطيعُ أنْ أَعذرَ كلَّ من ضايقني وحتى من جرحني
حُبُّكَ سماحٌ للبشريةِ أجمعين.
حينَ أعودُ لحُبِّكَ يكبُر سوادُ عيني ويشتدُ البياضُ منهما.
حينَ أعودُ لحُبِّكَ، تسيلُ أنوثتي من جديد،
ويحمرُّ جسمي وترتجفُ رجلاي، أشعرُ بالغثيانِ من جديد
حبُّكَ غثيانٌ.
أدوخُ من حُبِّكَ أنا، أودُّ لو ارتمي بين كلماتِكَ والى الأبد".
وفي هذا النص نلمحُ الايحاءات الجنسيةَ وتداعياتِها في العلاقةِ التي تجمعُ العاشِقيْنَ والتي تفوحُ بعَبَقِ الحبِّ الجنسي الذي يجمعُ بينهما، وتبين البطلةُ عليهِ آمالَها وتوقعاتِها القادمةَ لتطوّرِ هذا الحبِّ بشكلٍ يجلبُ السعادة والهناءَ مع حبيبها.
وفي هذه الرواية يتبادرُ الى ذهنِنا الوهمُ القائلُ بأنَّ الحبَّ يعني بالضرورةِ غيبةَ الصراعِ بين العاشِقَيْنِ.
فكما أنّه من المعتادِ للناسِ أن يعتقدوا أنّ الألمَ والحزنَ يجبُ تجنُّبُهُما بكلِّ الطرقِ في جميعِ الظروفِ، فانَّهمُ يعتقدونَ بأنّ الحبَّ غيبةُ أيِّ صراعٍ. ولكنَّ الروايةَ تبيّنُ بطلانَ هذا الوهمِ حولَ بُعْدِ الصراع عن الحب، وانّما تشيرُ إلى أنَّ هذه الصراعات كما هو الحال في علاقةِ بطلةِ القصةِ مع حبيبها، هي عدمُ اتفاقاتٍ حولَ المسائلِ الحياتيةِ سواءَ أكانتْ جوهريةً أو ثانويةً هي بطبيعتها لا تؤدي الى وضوحٍ أو الى حلٍّ.
إنَّ محورَ هذه الرواية، في رأينا، يدورُ حولَ الفكرةِ في أنَّ ما يريدُ الحبُّ امتلاكهُ إنما هو "الشعورُ" أو "الضميرُ"، لا "الجسدُ" أو "الحقيقةُ الماديةُ"، وبالتالي كلُّ قيدٍ أو مصلحةٍ ذاتيةٍ أنانيةٍ، سواءِ أكانَ ذلكَ بالقانون أي الزواج أو بأيّةِ وسيلةٍ أخرى، لا بد من أن يُفضي الى القضاءِ على الحب. وربما كانَ التناقضُ الأكبرُ الذي وقعَ المُحبّانِ فريسةً لهُ في هذه الرواية هو تناقضُ اليأسِ والأمل، أو الألمُ والسرور، فالمحبّانِ هنا قد شعرا – من جهة – بأنّ اليأسَ حليفُ الحب، وأنَّ كلَّ حبٍّ مهما عَظُمَ هو وثيقُ الصلةِ بالخيباتِ الشخصيةِ، وأنَّ الحياةَ مأساةٌ، وأنّ الفنَ والحبَّ إنّما ينبعانِ من الألم. فإذا اعتبرنا الحبَّ قيمة القيم، فإنَّ القيمَ الأخرى لا تقومُ بذاِتها، وأما الحبُّ كما تعكسُهُ هذه الرواية فهو القيمةُ الوحيدةُ التي تقومُ بذاتِها، أو هو الشيءُ الوحيدُ الذي لا يُتْرَكُ لِمَنْ يملِكُهُ شيئًا آخر يرغبُ فيه.
وعند هذا الطرح نتوقفُ عند اقتباسينِ من نصِ الروايةِ في خواتيمها، الأولُّ بشأنِ العاشقِ، والثاني بشأنِ بطلةِ الرواية، وفيهما إشارةٌ ومقاربةٌ للمعاني السابقة فيما يتصف به الحبُّ حيثُ جاءَ في الاقتباس الأول (ص 93):
"لقد ذاقَ معها طعمَ كلَّ شيءِ، السعادةَ والحزنَ والغضبَ والاستياءَ والضيقَ والفرحةَ، والحبَّ! وهذه هي الحياة".
أما الاقتباس الثاني (ص 96) فقد ورد فيه:
"صحيحٌ أنَّها كانتْ معذبةً في الحياة الأولى ولكن للحياةِ كان طعم ولون وملامح. اليومَ لا عذابَ ولكن لا تفاصيلَ ولا ملامحَ للحياةِ".
ومما يسترعي الانتباه أنَّ كاتبة الرواية قد وضعت روايتها تحتَ عنوانِ "تشرين" ونحنُ نعتقدُ أنّ وراءَ اختيارها لهذا العُنوان ترميزًا لافتًا بكون "تشرين" شهرًا أساسيًا من شهورِ فصلِ الخريف الذي يرمزُ إلى الموتِ، التدهور، الحصاد، الاضمحلال والتلاشي الأوليّ، وما بعد الظهيرة. وهذه المعاني الرمزية لتشرين الشهر الخريفي إنّما تمثلُ الوضعَ أو الحالَ الذي آل إليه مصيرُ حبِّ العاشِقَيْن، بطلةِ القصةِ والرجلِ حبيبها، من حيثُ موتُ علاقةِ الحبِ بينهما، وتدهورُهَا واضمحلالُها كأنَّها انتقلتْ الى وقتِ ما بعدَ الظهيرةِ أي فقدتْ حرارتَها ووهجَها، كذلك فإنَّ اقترانَ شهرِ تشرين بفصلِ الخريفِ يرمزُ الى الاقترابِ من منتصفِ العمرِ، وهذا يمثّلُ ما بلغَهُ الرجلُ المعشوقُ من تقدّمٍ في السنِ نحوَ منتصفِ العمر، وأنّ البطلةَ أيضًا تسيرُ في هذا الاتجاهِ وإنْ كانت أصغرَ سنًا منه بشكلٍ ملحوظ.
مما تقدّم، نخلصُ الى القولِ بأنّ كاتبةَ روايةِ "تشرين" الأخت تغريد الأحمد قد حاولتْ في كتابتها لهذهِ الروايةِ أن تقدِّمَ روايةً دراميةً تشكيليةً تركَّزُ فيها الانتباهَ على خطٍ أساسيٍّ واحدٍ يعتمدُ على التسلسلِ المنطقي والتدفقِ الطبيعيِّ للأحداث، وقد وُفقَّت في ذلك جزئيًا، فمما يؤخذُ على فنيّةِ وتقنيةِ كتابتها لهذه الرواية ما يُعْرَف بالتدخل الشخصي للكاتب الذي يتوجبُ عليهِ الإقلال من ذلك بقدر الإمكان، كما أنّهُ يَجْدُرُ أنْ تأخذَ في الحسبانِ أنَّ الروايةَ الدرامية تتعدّى الوصفَ السطحيَّ العبرَ للأشياءِ الى التوترِ الكامن في النفس البشرية، وعلى هذا التوتر يقومُ الصراعُ الدراميّ لأيةِ رواية. ومن المهم هنا أن نُذكِّر الأخت تغريد أن تنتبه الى أنَّ الروائي يجبُ أنْ يهدفَ الى التكثيفِ والتركيزِ وليسَ الى التوضيحِ والتحليلِ كما فَعَلْت في بعض المواقف والأحداث، فالرواية هي بؤرةُ العدسةِ التي يرى فيها الانسانُ حياتهُ في ومضاتٍ حادةٍ وسريعةٍ.
ونحنُ بابدائنا لهذه الملاحظات، إنّما نلتمسُ للأخت تغريد العذرَ في كونِ هذهِ الرواية باكورةَ أعمالها في هذا المجال الأدبي الذي تخوضُ غمارَهُ بتجربةٍ كهذهِ تحملُ في ثناياها براعمَ النجاحِ الذي تستحقُ عليه التهاني والثناءَ والإطراء، متوسمينَ فيها القدرةَ والموهبةَ الواعدةَ لابداعاتٍ أدبيةٍ قادمة، متمنين لها دوام التقدم والتوفيق والمزيد من العطاء.