كنتُ في الخامسة والعشرين من عمري، عندما باشرتُ عملي محاضرا في الكلية العربية للتربية (دار المعلمين العرب آنذاك) في حيفا.. رغم صغر سني نسبيا، ربطتْني اواصرُ صداقةٍ ليس فقط مع الزملاء الشباب، إنما ايضا مع الدكتور مراد ميخائيل الذي كان آنذاك في العقد السادس من عمره. كان الاستاذ مراد سريع الخاطر، خفيف الظل وحاضر النكتة. لقد سمعتُه مرة يصف المعلمة راحيل(اسم مستعار) بانها: "ساعةُ وقْفٍ. إن سالتَها عن اخبارها تتكلم ربع ساعة بصورة متواصلة، وإن سالتَها عن اولادها فانها تتكلم نصف ساعة، اما إن سالتَها عن احفادها فلا تتوقف ابدا عن الكلام"، اي "non stop"على حد تعبيره. هذه الاوصاف استعادتْها ذاكرتي قبل ايام قليلة، عندما شاركتُ في سهرة بيتية انيسة شملت باقةً من الاصدقاء والمعارف منهم امين ابوصلاح وفواز ابو فوزي والزوجات.. كانت اجواء السهرة هادئة ممتعة كعادتنا، واستمرت كذلك حتى اخذت ام فوزي تتحدث باعتزاز كبير عن احفادها وتُطنِب في الحديث عنهم، سيما عن الحفيدة الكبرى سميرة التي ستتخرج هذه السنة من المدرسة الثانوية، وعن حفل تخرّجها المرتقب وعن الفستان المميز الذي سترتديه وعن الكندرة ذات الكعب العالي، وعن مصفف الشعر وعن الحجز في المطعم الذي سيتولى اعداد الوليمة، فضلا عن إعداد قائمة المدعويين وترتيب الامور الموسيقية مع ال DJ وغيره...
حديثُ ام فوزي جعل الكيل يطفح لدى امين ابوصلاح الذي عرفناه جميعا بصراحته وصدق مشاعره وعدم محاباته للآخرين وبجرأته على "بجّ العديلة"، فابدى اعتراضه على هكذا "احتفالات" يقوم بها الاهالي، فتصدّت له امُّ فوزي بقولها: " شو يعني بدك تحرم الاهل يحتفلوا باولادهم؟!". فاجابها ابو صلاح: "يا عمي انا مع حقّ الاهل ان يحتفلوا باولادهم في إطار احتفالات مدرسية تربوية و/أو بيتية حميمية دافئة، لكنني ضد التبذير والبذخ وحب الظهور ومبدأ شوفوني يا ناس"، مضيفا بعصبيةٍ أبتْ ان تتقنّع: "اذا اصبحنا نحتفل بتخرّج اولادنا من الثانوية بهذه الفخفخة، فكيف ستكون احتفالاتنا بتخرجهم من الجامعات او باعْراسِهم؟! او..أو..الخ". لاحظتُ ان الموجودين قد انقسموا بين مؤيد ومُعارض، وان الجوّ قد تكهرب. فقررتُ أن اتخطى الموقف بنكتة مناسبة، فبدرت الى ذهني قصةُ مسعود الموسى:
يقول الراوي ان مسعود الموسى انهى الابتدائية في مدرسة قريته الجليلية، زحفا اي بصعوبة بالغة، وبالتالي لم تكن لديه رغبة في الدراسة الثانوية، لكنّ والده اصرَّ على إلحاقه بالمدرسة الثانوية التي كانت في البصّة (بلدة مهجرة تقع على بعد 19 كيلومترا شمال مدينة عكا) ووضعه في القسم الداخلي، أمَلا بان هذا سيسهم في تحسيين تحصيله الدراسي... لكنَّ شهادة الفصل الاول التي حملها مسعود معه عائدا الى البيت لقضاء عطلة الشتاء، لم تحمل تباشير الخير التي توخاها والدا مسعود. كانت الشهادة تشمل قائمة باسماء المواضيع التي تعلمها في المدرسة، والعلامات التي حصل عليها في كلٍّ منها. كانت علامات النجاح مكتوبة بالحبر الازرق، بينما علامات السقوط كُتبت باللون الاحمر. وهكذا عندما وصل مسعود الى البيت، وراى ان والده ليس هناك، استبشر خيرا، فسارع الى تقديم شهادته الى والدته، مطمئنا لكونها اميّة لا تقرأ ولا تكتب. تناولت ام مسعود الشهادة وكانها تريد ان تقراها. لفتت انتباهَها الالوانُ الحمراءُ والزرقاء، فهتفت جذلةً: "إسم الله عليك يا مسعود، شهادتك منقَّشه".
فعلت النكتةُ فعلَها، فضجّ الديوان بالضحك. سمعتُ احدَهم يداعبني بقوله: "بتْأمَّل إنو شهادتك انتي ما كَنَتِشْ منقَّشة"، فرويتُ له النادرة التالية:
كنت واحدا من المربين الذين كلفهم المطران الياس شقور إبان ولايته على ابرشية الروم الكاثوليك في الجليل، ليكونوا اعضاء في لجنة تربوية تشرف على ادارة منظومة المدارس الاسقفية في الجليل. استعرضنا في احدى جلساتنا الاولى دورَ المدارس الاسقفية في خدمة مجتمعنا على اختلاف اطيافه، منذ بداية القرن العشرين. حدّثنا عضوُ اللجنة المؤرخ المعروف الدكتور جوني منصور عن دور المطران حجارخلال فترة اسقفيته(1901-1940) في افتتاح العشرات من هذه المدارس ومنها المدرسة الرائدة الشهيرة في البصة. تعزيزا لحديث جوني قلتُ لزملائي في اللجنة، انني خريج احدى تلك المدارس وهي مدرسة فسوطه الاسقفية الابتدائية، كما عرضتُ عليهم، ولو من باب "ان الصورة تعادل الف كلمة"، صورةً عن شهادة تخرجي من الصف الاول الابتدائي، بتوقيع مدير المدرسة الاب باسيليوس لحام بتاريخ 28/7/1946 ومذيّلة بالملاحظة التالية: "أنهى الصف الاول بنجاح – يرتقي السنة القادمة الى الصف الثاني الابتدائي". اثارت هذه الشهادة اهتمامَ الزملاء في اللجنة التربوية، سيما الصديق الكاتب الاستاذ سهيل عطالله الذي اخذ يقرأ الشهادة بتمعن. توقف سهيل عند العبارة التالية: "الرتبة: الاول"، ليقول لي مبتسما: "يعني بدَّك تِثْبِتِلْنا انك كنتَ الاول في صفّك؟" فاجبتُه ضاحكا: "بدي اثبتْلَك اني خريج صف اول". ضحك الجميع بما في ذلك ام فوزي التي سألتني مبتسمةً: "اذن كيف كانت حفلة تخرّجِك من الصف الاول الابتدائي؟". فوجِئت امُّ فوزي والاخرون عندما قلتُ لهم ان حفلات التخرّج آنذاك، كانت غائبة تماما عن المشهد التعليمي في المدرستين اللتين تعلمت فيهما: الابتدائية في فسوطه والثانوية في كلية تراسنطة في الناصرة. لكن ما اثار الاهتمام فعلا، هي قصتي مع احتفال تسلّم شهادة الدكتوراة من جامعة لندن:
غداة اجتيازي لامتحان الدكتوراة في اواخر حزيران 1984 بعد تعب مرهق ومضنٍ على امتداد ثلاث سنوات متتالية، "زفَّت" اليّ مديرةُ قسم شؤون دراســات الدكتوراة في الجامعـة السيدة رينولد (Mrs. Reylond) خبرا "مثيرا مميزا وفريدا" (على حدّ تعبيرها) مفاده: "ان الملكة اليزابيت الثانية ستترأس احتفال توزيع شهادات الدكتوراة، في قاعة البرت (Albert Hall) في لندن، في شهر تشرين الثاني القادم (اي نوفمبر1984) ". بدت السيدة رينولد منفعلةً رغم سنّها المتقدم ورصانتها المالوفة وهدوئها الطاغي، فقالت لي وكانها تخاطب جميع طلاب الدكتوراة بشخصي: "صحيح ان جوهر التحاقكم بالجامعة هو الحصول على الدكتوراة، لكن استلام الشهادة من يد الملكة بالذات، سيكون الجوهرة (Diamond) التي سترصّع تاجَ تخرّجِكم". حديثُ هذه السيدة جعلني اقرّرُ أنْ اشدَّ اعصابَها مداعَبَةً، فقلت لها بلهجةٍ اردْتُها جادةً: "معذرة يا سيدتي، إنَّ جلالة الملكة لم تنسّق معي موعدَ حفل التخرج، وعليه فانا لن احضر الاحتفال، ومن جهةٍ اخرى اطلب ان تُرسَل الشهادة الي بالبريد الجويّ ". رأيتُ عيني السيدة رينولد تتقززان محملقتين بي وكأنهما على وشك ان تخرجا من محجريهما، كما لمحتُ فكَّها السفلي يتدلى وكأن شللا قد اعتراه: "ماذا تقول؟ اتقول ان الملكة لم تنسّق معك؟!!". ادركتُ صدمةَ السيدة رينولد المعروفة بكونها مَلَكيّة (اي متعصبة للعائلة المالكة) اكثر من الملكة ذاتها. لم اتمالك نفسي اكثر من ذلك، فاطلقتُها ضحكةً مجلجلة كنتُ قد اعتقلتُها في داخلي. ادركت السيدةُ رينولد اني امازحُها، فانفجرت بدورها ضاحكة على غير عادتها، لكنها اصرّت ان تعرف حقيقةَ الموقف. حدّثتُها عن الظروف التي تُلزِمُني بالعودة الى حيفا لمتابعة عملي في وزارة المعارف بعد غياب استمر ثلاث سنوات متتالية، فابدت تفهما، كما حرصت فيما بعد اي بعد حفل توزيع الشهادات، على ارسال شهادتي إليَّ بالبريد الجوي كما طلبتُ..
ما ان توقفتُ عن الكلام، واذ بامّ فوزي عشيقة حفلات التخرّج كما لقبناها مداعبة، تقول لي: "يعني انتَ ربحتَ الشهادة لكن خسرت الجوهرة كما قالت لك السيدة الانكليزية، فلم تفز بمصافحة الملكة". هذه الملاحظة التي ابدتها ام فوزي، جعلت ابا صلاح يتصدى لها من جديد، وقد عقد العزم على مناكفتِها، باسلوب "بحْكي معك يا جارة، تَتِسْمَعي يا كِنّة"، قائلا لي: "ربّما خسرتَ "جوهرةً"، لكنك بكل تاكيد ربحتَ الجوهر وهو الاهم. أليس كذلك؟".