كان ذلك قبل اسبوعين، وتحديدا مساء يوم الاحد 25 شباط 2018، عندما قدِمتُ لزيارة صديقي شريف ابو فادي في بيته، متفقدا لاوضاعه بعد ان غادر المستشفى إثر حادث طرقٍ أدّى لكسر في ساقه اليمنى. كان ابو فادي يجلس في الصالون مع صديقينا المشتركين الياس ابو عطا ويوسف ابو متى وآخرين عديدن، يتابعون نشرة الاخبار في التلفزيون. كان ابو فادي يعلم انني لا احب تطفّلَ التلفزيون على مجرى الحديث، فرأيتُه يمدُّ يدَه الى جهاز التحكم لإطفائه. لكنّ الصورة غير المالوفة التي ظهرت في تلك اللحظة على الشاشة، جعلتني استوقفه عن ذلك. كانت الصورة لرؤساء الكنائس في القدس، بضمنهم: بطاركة ونواب بطاركة واساقفة وغيرهم من القيادات الدينية المسيحية العليا الارثوذكسية واللاتينية والارمنية والقبطية وغيرها ، وهم يعتصمون امام كنيسة القيامة وقد اقفِلت ابوابُها. هذه الصورة وغيرها من الصور المثيرة، كانت قد وردت في تقرير صحفي عن الضرائب التي فرضها رئيس بلدية القدس نير بركات، على الاملاك الكنسية، بصورةٍ منافية للاعراف ولمبدأ "الامر الواقع" ((Status quo.. هذا الخبر التلفزيوني استحوذ على اهتمام شريف ابو فادي وضيوفه، فتوالت التعليقات والتعقيبات:
فهناك مَنْ قال ان هذا المشهد هو مجرد مسرحية للتغطية على صفقات بيع العقارات التي قامت بها بعضُ القيادات الكنسية التي تصدّرت الاعتصام. في حين ان البعض الاخر قال ان قناعته قد توطّدت بانّ شعارَ "الاقصى في خطر" ينسحب ايضا على كنيسة القيامة. فكما ان حكومة اسرائيل تعلن على الملأ ان اسرائيل هي دولة "الشعب اليهودي" فقط، وليست "دولة الشعب اليهودي وكل مواطنيها"، فلا بد ان هناك اوساطا يمينية دينية متطرفة تعتبر القدسَ مركزا للدين اليهودي فقط وليس لاديان "الاغيار".
وهناك من أخذَ يطرحُ اسئلةً بلاغية(Rhetorical Questions) منها: لماذا يعتصم رؤساء الكنائس لوحدهم؟ اين عمقهم الاستراتيجي الجماهيري العربي مسيحيا على الاقل؟ ان لم يكن مسيحيا واسلاميا ايضا؟ وهل توخَّى اصحابُ الغبطة والسيادة والقدسية ان يَظهروا امام الإعلام العالمي بانهم "أيتام على مائدة لئام"؟ ولماذا ينبغي ان يكونوا ايتاما؟ وهل مثل هذا "اليتم" هو ارادة سماوية او هو حصيلة طبيعية تلقائية قد أتت وليدةَ غربةٍ افتعلها بعضُ، إن لم يكن كل، القيادات الدينية المسيحية تمهيدا لانفرادهم بالسلطة روحيا وماديا ايضا؟ ولممارسة عبثٍ مشينٍ بالاوقاف، بيعا صريحا او "مقنّعا" على غرار ما حدث في اوقاف ام الكنائس اعني الكنيسة الارثوذكسية، وغيرها من الكنائس الاخرى بضمنها كنائس ذات رئاسات عربية صرفة، ليس في القدس فقط، إنما في يافا وحيفا والناصرة وطبريا وبيسان والقائمة ما زالت طويلة كطول يد لصوص الاوقاف من يونان وعرب ايضا، اكليروسا وعلمانيين؟.. وبالتالي هل اصبح وضع تلك القيادات الدينية المعتصِمة لوحدها بدون مشاركة جمهورها، كوضع ذلك الشخص الذي قتل اباه ثم بكى لانه قد اصبح يتيما؟
وهناك ايضا من بدا لاول وهلة، كمن يخرج عن سياق الحديث، فقال وهو يبتسم ابتسامة لا تخلو من التهكم: "اقترحُ ان نطلب وساطةَ رئيس بلدية القدس نير بركات، لدى القيادات العليا للكنائس عسى ان تتفق تلك القيادات، على توحيد موعد الاحتفال بالاعياد لدى الطوائف المسيحية المختلفة، ذلك لان وحدة الصف التي "حققها" نير بركات رئيس بلدية القدس، بين القيادات، طبعا دون ان يقصد، لم تحققها حتى اسمى وصايا السيد المسيح: "احبب قريبك مثل نفسك.."(مرقس 12:31)، وبالتالي فكانت بينهم (اي رؤساء الكنائس) الفرقة والانقسام والتنافس والصراعات ، حتى في داخل اقدس المعالم المسيحية في العالم ككنيسة القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم، فلم يفلحوا في الخروج بموقف موحَّد حتى في موضوع شكلي لا علاقة له ابدا بالثوابت الايمانية المسيحية، كقضية توحيد موعد الاحتفال بعيدي الميلاد والفصح لدى الطوائف المسيحية المختلفة، فابقوا الفُرقة على حالها، غير عابئين باصوات من نادى وينادي بايقاف هذه المهزلة(كما سماها المطران العراقي الاصيل مار نيقوديموس مطران الموصل للسريان الارثوذكس).
وهكذا اخذ الحديث في السهرة منحى آخر، فتحول من قضية فرض الضرائب على الاوقاف و/ او بيعها، الى قضية عدم اتفاق القيادات الكنسية العليا على توحيد موعد الاحتفال بالاعياد، فاثارت هذه القضية بدورها نقاشا اخذ يحتدّ تدريجيا بين فريقين اساسيين: فريق ثوري وفريق مهادن. كان الفريق الثوري، كصديقِنا الياس ابو عطا، يتبنى فكرة فرض الامر الواقع على القيادات الكنسية، اي تحقيق انجاز جماهيري جديد يكون على غرار الانجاز الذي حققه الجمهور العربي المسيحي العلماني، في القرن الماضي، في قضية شرعنة الزواج المختلط ما بين ابناء الكنائس الكاثوليكية(روم كاثوليك، موارنة، لاتين..الخ) وابناء الكنائس الاخرى من ارثوذكسية وبروتستنتية وغيرها، رغم معارضة القيادات الدينية المتزمتة .. وايضا كالانجاز الذي حققه منذ عشرات السنين، مسيحيو قرية كفر كنّا (قانا الجليل) من مختلف الكنائس، حيث قرروا ان يحتفلوا سويةً بعيد الميلاد حسب التوقيت الغربي، وبعيد الفصح حسب التوقيت الشرقي، وعملوا على اخراج هذا القرار الى حيز التنفيذ رغم معارضة بعض القيادات الدينية المسيحية، التي عادت فاستسلمت لارادة الجمهور الواسع وتماسكه وإصراره، ومشت مع التيار..
اما الفريق الثاني اي الفريق المهادن فهو ممن يَدْعون، كصديقنا يوسف ابو متى، الى متابعة انتهاج اسلوب التفاوض مع القيادات الكنسية حتى وان لم يؤتِ هذا الاسلوب ثمارا على امتداد مئات السنوات الماضية. موقف يوسف هذا، اعتبره الياس ابو عطا وفريقُه تخاذلا لان: "تلك القيادات لا تريد ان تسمع، وإن سمعت فلا تريد ان تتغير". حديث الياس ابو عطا ذكرني بطرفة المطران سمعان والسائق بطرس.
عُيّن بطرس سائقا لسيارة المطران سمعان، فاصبح مرافقا لسيادته يُعتَمد عليه. كان بطرس في الثلاثين من عمره. بدا مسرورا بعمله وفخورا بلقبه ومرتاحا جدا لسماع الاخرين وهم يعرّفون عليه باسم "شوفير المطران سمعان" . لم يكن شيء يعكّر صفو بطرس ومزاجه، سوى المطران نفسه الذي دأب على مناداته: "يا متري" وليس "يا بطرس". لفتَ بطرس انتباهَ المطران، المرة تلو الاخرى، بانَّ اسمه بطرس وليس متري.. لكن الامر لم يتغير لدى المطران فاستمر يقول لبطرس: "تعال يا متري"، "روح يا متري"، "هات يا متري"..الخ. في مساء احد الايام، وعندما ناداه المطران: "يا متري"، فقدَ بطرس اعصابَه، ووقف منتصبا امام المطران رغم هيبته، قائلا له بعصبية: "يا سيدنا أنا لمّنْ خلقت سمّوني اهلي بطرس، وابوي صار ابو بطرس وامي صارت ام بطرس، وعلى شهادة عُمّادي مكتوب اسم بطرس، وتخرجتُ من مدرسة بلدنا باسم بطرس، وزوجتي هي زوجة بطرس واولادي هم اولاد بطرس..."، فالتفت اليه المطران سمعان قائلا له: " واللهِ قِصْتكْ قصة يا متري"..
ويبقى السؤال: "هل سيسمع سمعان اخيرا؟ وهل اذناه معدتان للسمع أصلا؟" ارجو ذلك...