أنا لا أخجل، أنا أتّهم
أوري أفنيري
هآرتس، 15.4.2018 ترجمة: أمين خير الدين
سجّلوا: أنا، أوري أفنيري، رقمي العسكري 44410، أبعث بهذا صكّ طلاق للقنّاصة الذين يقتلون متظاهرين غير مسلحين على طول شريط حدود قطاع غزّة، أبعث بصك الطلاق لهم ولقادتهم الذي يلقون عليهم ألأوامر، بدءا من الضابط الصغير حتى قائد الأركان. لا ننتمي لنفس الجيش، لا ننتمي لنفس الدولة. ونكاد لا ننتمي لنفس الجنس البشري.
هل ترتكب حكومتي "جرائم حرب" على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزّة؟ لا أعرف. لست حقوقيّا. يبدو أن رجال القضاء الجنائي العالمي يعتقدون بأن أعمال الجنود حقّا هي جرائم حرب. يطلبون تحقيقا دوليّا. كي يمنعوا ذلك، وقيادة جيش الدفاع الإسرائيلي تقترح تحقيقا عسكريّا إسرائيليّا. هذا مُرْبِك جدّا- أن يقوم جيش بالتحقيق مع نفسه بالنسبة لتنفيذ أوامر صادرة بناء على أوامر قيادته العامّة.
أعلن النظام في غزّة، أنه ستجري مظاهرات غير مسلّحة أسبوعيّا، بعد صلاة يوم الجمعة، حتى يوم النكبة. كما أعلن مُسْبَقا، فتمركز قنّاصة على طول الحدود وأُعْطيَت لهم الأوامر بقتل "ألمحرضين" من الجانب الآخر للجدار الحدودي. قُتل في أول يومي جمعة 29 متظاهرا غير مسلّح، وجرح من إطلاق النار أكثر من ألف- جميعهم من القنّاصة.
بالنسبة لي ليست هناك قضيّة قضائيّة. هذه جريمة- وليست فقط جريمة بالنسبة للضحايا غير المسلحين. إنما هذه جريمة بالنسبة لدولة إسرائيل، وبالنسبة للجمهور الإسرائيلي وللجيش الإسرائيلي. لأنني كنت جنديا في هذا الجيش عندما أُقيم ، وأعتقد ان هذه جريمة بالنسبة لي ولرفاقي.
نُشِر في الأسبوع الماضي في وسائل الإعلام فيلما قصيرا– ظهرت فيه أعمال قناص من وجهة نظره. يُشاهِد المتظاهرين عن بُعْد مئات الأمتار. البندقيّة ذات الناظور تتحرّك هنا وهناك، حتى يتركّز بشخص مُعيّن. بالصدفة التّامّة، ويلبس قميصا ورديّا، القناص يطلق النار والمتظاهر يسقط. ثم صرخات ابتهاج "يييش" تُسمع من حول القنّاص. من الجنود الذين لا يظهرون في الفيلم، كأنّ صيّادا استطاع أن يصطاد أرنبا.
كان هذا خرقا قارصا للوصيّة التوراتيّة الواضحة: "لا تفرح بسقوط عدوِّكَ ولا يبتهج قلبُك إذا عثِرَ" (امثال، الإصحاح الرابع والعشرون، 17). كثيرون من الإسرائيليين رأوْا هذا الفيلم القصير منذ عُرِض لأول مرة في التلفزيون. لم يَقُم أيّ احتجاج، باستثناء عدد من المقالات والرسائل التي وصلت لهيئة التحرير (في جريدة "هآرتس").
لم يحدث هذا وراء البحر. هذا جرى بقربنا. على بُعْد 45 دقيقة سفر من بيتي في تل أبيب. لم يكن القاتل مرتزقا مجرما. هو– والجنود المبتهجون حوله – شباب عاديون، جُنّدوا عندما بلغوا من العمر 18 سنة. هم فقط نفّذوا الأوامر. لم نسمع عن رفض واحد للأمر.
حتى قبل أسبوعين كنت أكِنّ احتراما كبيرا للضابط الكبير في جيش الدفاع الإسرائيلي، الجنرال غادي آيزِنكوت. الضباط حوله فنيون تقنيون فقط ، بينما هو الذي بدا بأنه قادر على المحافظة على احترام الجيش أمام البلطجي المسمى وزير دفاع. وليس هذا فقط، آيزنكوت أعطي الأمر بالقتل، أمَرَ القناصة بإطلاق النار على المتظاهرين غير المسلحين. بربّك، لماذا؟
كالبريطانيين في الهند والعنصريين في ألَاباما، حكومة إسرائيل لا تعرف كيف تتصرف مع الاحتجاج الجماعي غير العنيف. لم تواجهه في الماضي. عدم العنف لا وجود له في التقاليد العربيّة.
بالصدفة شاهدتُ هذا الأسبوع الفيلم الكلاسيكي المهاتما غاندي، جرّب البريطانيون كل شيء. ضربوا غاندي والآلاف المؤيّدين له بوحشيّة شديدة. قتلوا آلافا بالرصاص الحيّ. ولمّا تحمّل غاندي ورفاقه كل التنكيل ولم يستسلموا، استسلم البريطانيون وانصرفوا.
وهذا ما فعله العنصريون البيض الذين حاربوا مارتن لوثر كينغ ورفاقه في ألاَباما. جاء أحد مؤيديه من الفاسطينيين إلى االبلاد وحاول أن يُقْنِع أبناء شعبه باتّباع نفس الطريقة. أطلق جيش الدفاع الإسرائيلي النار فعاد الفلسطينيون إلى الكفاح المسلح.
هذه المرّة ليست كتلك. حركة حماس (خاصّة حركة عُنْف) ناشدت السكان كي يحاولوا الاحتجاج السلمي غير المسلّح. استجاب لها عشرات الآلاف. قد يؤدي هذا الاحتجاج لنتائج غير متوقَّعة. منها الأمر العسكري للقناصة بالقتل العشوائي، لا أكثر ولا أقل.
عندما أعلنت بأنني أخجل، أحد القرّاء اتّهمني بالمداهنة. استشهد بعبارات من كتابَيْن لي عن حرب – التحرير("بحقول فلسطين 1948" و "الوجه الآخر من العُمْلَة") وفيهما تحدّثت عن الأعمال الفظيعة التي كنت شاهدا عليها. من المؤكد أنه حدثت أمور فظيعة، كما يحدث في كل حرب. والجنود الذين قاموا بها كانوا من كل الطوائف ومن كل الطبقات، لكنهم شُجِبوا فورا من قِبل جنود آخرين، ومن كل الطوائف ومن كل الطبقات. معظم الجنود تصرفوا باعتدال، وتأثّروا بالجنود الأكثر اقتناعا.
اليوم تختلف الصورة. ليس فقط لأن كان المتظاهرون غير مسلّحين، وعلى بُعْد بيّن من الجدار.وأن الأعمال الفظيعة نُفِّذت حسب الأوامر، أنما لأنه لا توجد أصوات للآخرين. القيادة السياسية والقيادة العسكرية متوحدتان. وفي الأوساط المدنية أيضا لا تُسْمع سوى أصوات قليلة تندّد بالقتل الجماعي.
وكيف تردّ وسائل الإعلام الإسرائيلية؟ في الواقع، لا تردّ. تكاد وسائل الإعلام تتجاهل هذا الحَدَث المصيري في تاريخ شعب إسرائيل.
مرتكبو الجرائم محظوظون. ثمّة كثير من الأحداث التي تُلهينا عن أعمالهم المنحرفة. على ما يبدو أن الرئيس بشار الأسد استعمل السلاح الكيماوي ضد المتمردين في بلاده. والإعلام الإسرائيلي يحتفل بذلك. كم هو فظيع، بربري، عربيّ!
وثمّة مشكلة أل- 36000 أفريقي "مقيم غير شرعيّ" (بما معناه غير يهود) تسللوا إلى إسرائيل. والحكومة تريد طردهم إلى الخارج. وثمّة إسرائيليون معتدلون يريدون منع ذلك، وهذا عمل إضافي. لذلك لا وقت لقطاع غزّة.
وكان أيضا يوم ذكرى الكارثة، ولحُسْن الحظ كان في الأسبوع الماضي. يمكن كتابة الكثير عن هذا الفصل المخيف من تاريخ شعبنا. أين هي غزّة من أوشفيتس ؟
وماذا جرى في وسائل الإعلام؟
المحزن في وسائل الإعلام الإسرائيلي أنها عادت إلى ما كانت عليه في بداية قيام الدولة: أداة بيد الحكومة، جماعة "هعولام هزه"، عملنا طويلا حتى كسرنا هذه القاعدة. وكانت لنا على مدار سنين طويلة صحافة منطقيّة، فيها كثير من الصحفيين والمُذيعين الممتازين.
وليس أكثر. بقي قليل، أكثرية الإعلام اليوم يُنسَّق جيّدا مع الحكومة ( ولهذا تسمية ألمانية معروفة لدراون – gleichgeschaltet). تُخصّص دقيقتان من نشرة الأخبار لغزّة، 20 دقيقة لما حدث في سوريا، و- 10 دقائق لثورة اللاساميين (الخيالية) في حزب العمال البريطاني.
معظم الصحفيين والمذيعين أشخاص صالحون وذوو نوايا حسنة، لا يدركون جيّدا ماذا يعملون (أو ما لا يعملون). ببساطة لا يفكّرون.
أين اليسار؟ أين ما يُسمّى "المركز"؟ لم يختفوا، كما يدّعون. بعيدا عن ذلك. يكفي 1% من عدد الناخبين من إحدى القوائم الصغيرة في الكنيست، لإسقاط حكومة نتنياهو. لكنهم حميعهم خامدون ومشلولون. لم يرفع أحد صوته ضدّ القتل، باستثناء همسات هنا وهناك. حتى المجموعات الصغيرة الممتازة التي تناضل ضدّ الاحتلال، كل واحدة منهم في واد، يصمتون أمام القتل في غزّة. لا توجد مظاهرات جماعيّة، لا توجد مسيرات احتجاج ضخمة، لا يوجد شيء.
وأتهم انفسنا أيضا بهذا، ربما أكثر مما أتهم الآخرين.