مماريع الأرض بقلم: د. منير موسى
الأغاني تغاني، وتناغي مهجة الإنسان، وشعوره إذا كان لها برق وبريق لحنًا، كلمات وصورًا. فتلك المتّشحة بالمجون، التّهتّك والخلاعة هي الّتي تشُوق النّظر من نواظر حسيرة في تمييز ما هو جافٍ عن الخُلُق، وما هو صافٍ للجَنان. وهي تجتذب أفئدة الأزهار اليانعة الفاغية الّتي أخذت أفواحها تضمّخ منتديات وحلقات القوم، هذا إذا كان خير منادم في الأنام قرطاس، يراع وكتاب، وليس الصّهباء ولا الهاتف اليدويّ مع كلّ حاجاته المفيدة والضّارّة معًا. فرقراق الحُباب في صحن الشّراب يخز، وينخس بأنصال قتاده البلّانيّ والقندوليّ. هي تبدو ببُرْدِها وإزارها المغالي في الإغراء، ولكنّها، بالحقيقة، هي الخافية المخفيّة الطّائشة على وجه الخِضمِ مشابهة لمِنخاس السُّمّ الزُّعاف. وهذه هي سرعة وتسارع التّحضّر والحضَر والحضارة، ونمن هزرفة التمدن المحتطبة من المدنيّة الحمقاء في تهوّرها الواعي الدّعيّ المدّعي. وهي لا ترحم حتّى نفسها، ولا تترحّم على المفتونين بها، وهم أشقياؤها. التّهالك نحو الأفضل، الحسن، الأربح، الأغلى والأكثر غرورًا والتفه. هذا التخلُّق يحرم أصحاب الذّوق الرّفيع، بشرط ألّا يترفّعوا، وينغرّوا من تشنيف آذانهم بأصوات الحجَل، الفِرّ، الزّراعيّ، اللّاميّات، الصُّفْرِيّات، الشّحارير، الجآجئ، الصّيديّات، الهداهد، البراقش، النّوارس، القعاقع، السّمرمرات، التُدرُجات، عصافير الدّواري، الكناريّات، الحساسين والعنادل، وتلك الواقعة على أشكالها. هذه التشكيلة العفويّة هي جزء يسير من أصناف، لا تحصى، تزركش الآكام، الوديان، الرّوابي، الهاد والنّجاد والآجام. ومنها مَن آثر الغناء والتّغريد على شِعاف فروع أغصان أشجار الوعور والجبال من سنديانها، سَنْطها، خرّوبها وكيناها. وقد ودّ مجاورة الصّخور، الأشواك، الهوامّ، الزّحافات، الحيوانات البرّيّة ودبّابات الغَبراء الفائحة الفيحاء وأكناف المنتجعات. الخُضيريّ عصفور، ريشه أخضر وأصفر، ويضاهيه الكناريّ والحسّون عروسة التُّرْكُمان. وهوعصفور، ريشه مشكّل من الأصفر، الأسوَد، الرّماديّ، الأبيض والأحمر. إنّها تمتطي صهوة الأساطع والأشاقر المحجّلة الجامحة في القفار والسّباسب محمحمة، ومِهارها المَرمارة تخُبّ حِذاءها منجذبة إلى فوح حنان الأمومة. الصخور الصّمّاء الّتي يثوي عليها عشّاق القطعان السّارحة لملاقاة الغُدران، وحُداة العيس المُلتاحون المحَسّرون، يحثّون الخطى أمام القوافل، وكلّ مغرم برومانسيّة النّسائم المتّشحة ببراقيق الأيفاع وزقوقاتها، وهي وُكُنات القُنبرات، السّمّانيّات، الصّرودات والصّرارات. تلك الصّخور يأوي إليها كلّ من احترف اللّصوصيّة ومن هرب من العدالة راهبًا أو راهبًا شبه واعٍ لما هو فيه من ضلال. أشكالها عجيبة، وقماشها مزخرف ماسيّ حريريّ مخمليّ مخشوشن محدّد محدّب، عليه سجلّات التّاريخ. وكلّ هذه من مماريع الأرض، تباهي بها أحاى الرّسومات والمنحوتات والتّماثيل الّتي لم يألُ الفنّانون جهدًا في إبداعها وصياغتها على مَر الأحقاب والحضارات.
عشقت الوعور صغيرا
فكنت للشِعاب أسيرا
صحبت جِداء وحُملانا
شردت، ومن راحتي سقيت الطّيورا
ودامت شبّابتي خِلّي
ترقّص مهرًا وعصفورا