مُعترِف ومُعرِّف وعارف
د. حاتم عيد خوري
نقف هذه الايام على عتبة (وربما قد اصبحنا في خضم) المعركة الانتخابية للسلطات المحلية في مختلف القرى والمدن والمجالس الاقليمية عربا ويهودا في بلادنا، فكان من الطبيعي ان يفرض هذا الموضوع نفسَه على جدول الاعمال الافتراضي "للـبرلمان" أعني لمجموعة المتقاعدين التي كنتُ قد اشرتُ اليها في مقال سابق نشرتُه بتاريخ 30 آذار 2018 تحت عنوان "بَس معنا ومِش علينا". تململ زميلُنا ابو هادي وهو احد اعضاء "البرلمان" المواظبين على حضور الجلسات الاسبوعية لا سيما ما يُعقد منها على مقربة من منزله في حي الالمانية في حيفا، فقال متسائلا: "هل سيترشح رئيس البلدية الحالي، لولاية رابعة؟"، فاجابه احدُهم بسؤالٍ: "وهل رايتَ رئيس سلطة محلية او أي رئيس آخَر يتنحّى بمبادرته وبمحض ارادته؟". هذا السؤال الخطابي إستدرجَ تعليقا اضحكَني: "يا عمّي، كرسي الرئاسة مدهون بغِرا (صمغ نجارين)، فما ان يحتضن هذا الكرسيُّ اللعين مؤخرةَ الرئيس او المدير او المسؤول أينما كان، حتى يلتصق بها... وهات دبرّها"... وهكذا اخذت التعليقات تتوالى... لقد سمعتُ احدَهم يقول بلهجةٍ جادّةٍ وكأنه يتفهّم طبيعتَنا البشرية: "الانسان يا اخوان، يبحث عن السلطة والمال، وكلاهما متوفر في الرئاسة.."، فسأله آخَر دون ان يخفي ابتسامة بدت على شفتيه: "هل تعني المال الذي فوق الطاولة او تحتها؟". فردّ اخَر: "هذا التعميم ظالم يا جماعة وبه الكثير من التجنيّ. اذ كيف يمكن ان يؤخذ الصالح بجريرة الطالح؟!".
اخذ النقاش يحتدم، فمن متفائلٍ قائلٍ بان "المتهم بريء حتى تثبت ادانته" الى متشائم قائل بأن "الصالح من السياسيين هو من لم تُكتشَف فضائحُه حتى الان والمخفي اعظم، كما ان حجم الفساد يتناسب طرديا مع علو المركز الذي يشغله المسؤول". صحيح انني آثرتُ الصمتَ ولم اشارك في النقاش، لكن هذا الادعاء عن وجود علاقة طردية بين مركز المسؤول ومنسوب فساده قد جعلني اضحكُ لاني تذكرت طرفتين لبنانيتين منسوبتين الى الخوري سابا الدخّان. كان "ابونا سابا" راعيا لكنيسة كبيرة في بيروت، يؤمها كبارُ المسؤولين المسيحيين في العاصمة. درج حضرتُه في الفترة الفصحية، على سماع اعترافات المؤمنين ككل كاهن آخر في الكنائس الكاثوليكية، لكنه كان يفرض على المعترفين الخطأة عقابا مغايرا لما هو متعارف عليه لدى زملائه الكهنة الاخرين. إذ انه لم يكتفِ بان يفرض على الخاطيء ترديد صلاة: "ابانا الذي في السموات..." و/او "السلام عليكِ يا مريم..."، إنما كان يطلب من الخاطيء ان يقوم بالدوران حول الكنيسة عددا من الدورات يتناسب طرديا مع حجم الخطايا، كمّا ونوعا، التي ارتكبها. وهكذا شُوهد مديرُ سلطة الاشغال العامة وهو يدور حول الكنيسة دورة واحدة، ومديرُ الموانيء يدور دورتين، وقائد شرطة المرور يدور ثلاث دورات، وعضو مجلس النواب يدور خمس دورات...الخ". فسال احدُهم الخوري: "يا ابونا سابا، إذا إجا لعندك رئيس الجمهورية يعترف، فكم مرة سيدور حول الكنيسة؟". فاجاب ابونا سابا بقوله: "لا ادري تماما، ولكني انصحُه بان يُحضِر معه درّاجةً نارية((Motorcycle".
بعد ان استفاق اعضاءُ "البرلمان" من موجة الضحك التي اعترتهم، علّق احدهم بقوله: " اظن انه لو كان المُعترِف هو رئيس حكومة اسرائيل بما يحمله من ملفات الاتهام بالرشوة والفساد، لكان مضطرا ان يُحضِر معه طائرةً مروحية". هذا التعليق اثار بدوره موجةً جديدة من الضحك، كما ذكّرني بالطرفة الثانية المنسوبة هي ايضا، الى الخوري سابا:
ما ان انهى الشاب سبع الدخّان دراستَه في المعهد الاكليريكي، وسيمَ كاهنا ليصبح اسمه "ابونا سابا الدخّان"، حتى أمرَ مطرانُ صور بتعيين ابونا سابا مسؤولا عن احدى الرعايا الصغيرة في جنوب لبنان. قام ابونا سابا بواجباته الدينية وبالتزاماته الاجتماعية الدنيوية على افضل وجه، فاكتسب احترامَ الناس وتقديرَهم ممّا جعل تعلّقَهم به يزداد عمقا مع تتالي سنوات خدمته العشر. وهكذا، فما ان سمع ابناءُ الضيعة خبرَ ترقية ابونا سابا، وعن قرار نقله من الضيعة ليصبح مساعدا للبطريرك، حتى تجندوا لاقامة حفل وداعي يليق به، ويعبّر عن مدى ما يكنونه من مشاعر طيبة نحوه، فتنادوا لاختيار لجنة تحضيرية تتولّى إعداد الحفل.
قررت اللجنةُ التحضيرية ان يكون الحفل ليس فقط برعاية سيادة مطران صور، إنما ايضا بحضور معالي الوزير سامح بيك، كما قررت ان يُستهل الحفل بكلمة المطران ثم البيك، تتلوهما فقرةٌ فنية يعقبُها اخيرا كلمةُ المحتفى به. لم تكن مشاركة سامح بيك في هذا الحفل امرا مستهجنا، ذلك لان الاستاذ سامح، كما كان يعرّف سابقا، هو من مواليد الضيعة ومن اوائل متعلميها، كما اشغل فيها عدة مناصب، فمن معلم الى مدير ومن ناشط سياسي الى رئاسة السلطة المحلية ومن هناك الى كرسي النيابة فالملف الوزاري..
وصل المدعوون الى قاعة الاحتفال، بما في ذلك المطران والشخصيات الاعتبارية المشاركة، لكن سامح بيك لم يصل حتى بعد مرور ربع ساعة على الموعد المحدد لبدء الاحتفال، مما جعل المطران يباشر في إلقاء كلمته. حرص المطران على الإطالة مستعينا باسلوب الخروج عن النصّ والاسترسال في الحديث عسى أن يصل البيك. لكن البيك لم يصل. قرر منظمو الاحتفال ان يستعينوا بالفقرة الفنية آملين وصول البيك اثناء ذلك، فخاب املهم مرة اخرى. فكان لا بد من صعود المحتفى به الى المنصة لإلقاء كلمته. كان ابونا سابا يتكلم وعينه على المدخل الرئيسي للقاعة، لعلّه يرى البيك داخلا. لكنه ما لبث ان كفَّ عن ذلك، خوفا من بعثرة افكاره وتشتيت انتباهِه، لكنه حاول جهده ان يمطَّ الوقت، فاخذ يروي للجمهور قصة خطواته الاولى في الضيعة وكأنّه يستعيد ذكراياته. قال انه قد وصل الى هذه الضيعة المباركة قبل عشر سنوات. كان ذلك قبيل عيد الفصح. لم يكن يعرف احدا. حرص على القيام بواجباته بما في ذلك سماع الاعترافات. كان يجلس في كرسي الاعتراف الذي كان عبارة عن غرفة خشبية صغيرة تُمكِّنُ الخوري من سماع صوت المُعْترِف دون ان يتبين ملامح وجهه. صُعق ابونا سابا عندما سمع المعْترِفَ الاول يقول له انه مبليٌّ بداء السرقة، فإبّان فتوّتِه كان يسرق من والديه ومن جيرانه ومن زملائه التلاميذ، كما كان يسرق في شبابه من الاماكن التي عمل فيها والتي ما زال يعمل فيها. سكت ابونا سابا لحظة ثم تابع حديثه قائلا: "ان تلك الحادثة قد جعلتني اتشاءم فاسيء الظنَّ بالاخرين، وكأنني كنت اعتبر ان كل سكان الضيعة هم على شاكلة ذلك الشخص. لكن الايام والتجربة الشخصية دحضت سوءَ ظنّي".
بدا الخوري سابا كمن يريد ان ينهي حديثَه ويعلن عن انتهاء الحفل، لكنه توقف فجأة عن الكلام عندما رأى البيك يدخل الى القاعة، فهبّ للترحيب به ودعوته الى المنصّة. استهلَّ البيك كلمتَه بالاعتذار عن تاخره، مؤكدا على انتمائه لضيعته وعلى عمق معرفته بالخوري سابا، قائلا في معرض حديثه: " لقد كنتُ اولَ شخصٍ إعترفَ عندك يا محترم ..". فضجّت القاعةُ بضحك كاد يكون هستيريا بينما تسمّر البيك في مكانه على المنصة وقد بدا مرتبكا ممّا حدثَ ومتسائلا عمّا جرى، فإذ به يسمع احدَهم يقول: "اعترفَ البيك فعرفناه على حقيقته"..