دُعِيتُ قبل اسابيع قليلة، لتقديم مداخلة في مناظرةٍ عُقدت في مؤسسة اكاديمية، بحضور مجموعة كبيرة من الضيوف الاجانب. كان عنوان المناظرة:
Palestinian Arabs in Israel: Integration or Segregation? (العرب الفلسطينيون في اسرائيل: دمج ام فصل؟). قبل ان اتعرّض في مداخلتي، للمحاور الاساسية: كموضوعِ التعليم ما قبل الجامعيّ ووجود منظومتين تعليميتين منفصلتين للعرب ولليهود، وقبل ان اتوقف عند موضوع التوظيف وفرص العمل المتاحة وقضايا الاسكان والاحياء السكنية في المدن المختلطة كحيفا وعكا ويافا واللد والرملة وغيرها، استهللتُ حديثي بعرضٍ تاريخي موجز للظروف التي عاشها العرب الفلسطينيون داخل الخط الاخضر، متوقفا عند بعض القضايا المفصلية التي اشغلت وتشغل بالهم، منها مصادرة الاراضي وقانون "الحاضر الغائب" والمهجَّرون بصورة عامة ومهجرو اقرث وبرعم بصورة خاصة، وقد اصبحوا جميعا لاجئين في وطنهم منذ سبعين سنة وما زالوا.. لاحظتُ ان زميلي دافيد (اسم مستعار) على المنصة، والذي يعتبر نفسَه مستشرقا، قد بدا غير مرتاح لحديثي. لم استغرب هذا، ذلك لاني وإن لم اعرفه سابقا، معرفةً شخصية، فقد كنتُ اعرف عنه، من خلال كتاباته وتصريحاته، الكثيرَ من مواقفه اليمينية المتطرفة ، كما كنتُ اعرف عنه انه مستوطن كان يسكن في مدينة يميت التي اقيمت سنة 1973 في الجانب الشمالي الشرقي من شبه جزيرة سيناء على شاطيء البحر المتوسط بين رفح والعريش، والتي تم ّإخلاؤها سنة 1982. شعرتُ من نظراته ومن لغة جسده بصورة عامة، انه يتوق لمقاطعتي معترضا على حديثي. لكنَّ عريفة المناظرة وقد حرصت على ضبط النظام لم تُتِح له الفرصة، فبدا كمن يجلس على كومة من الشوك. هذا المشهد زادني اصرارا على متابعة حديثي وتوضيح وجهة نظري بالصوت والصورة، ملتزما بلغة الارقام وبعرض الوثائق الثبوتية، وحريصا على تمالك نفسي والمحافظة على هدوئي وعدم الانجرار الى مناكفات تسيءُ اليَّ والى الرسالة التي اردتُ ان اوصلها الى الجمهور في القاعة، لا سيما الى الضيوف الاجانب...
التصفيق الذي حظيتْ به مداخلتي، لم يردع زميلي على المنصة من طرح رؤيته المعاكسة، مستهلّا مداخلته بابداء تحفظه الشديد من تعبير "لاجئون في وطنهم" الذي ورد في مداخلتي. إذ ان استعمال تعبير كهذا ينطوي – حسب رأيه طبعا- على " تطلعات لعودةٍ مستقبلية لن تتحقق للفلسطينيين، كما لن تتحقق له شخصيا كمهجَّرٍ من مدينة يميت". كان واضحا للجميع ان دافيد هذا، يساوي بين وضعه كمستوطن زرعتْه حكوماتُ اسرائيل المتعاقبة، على ارضٍ محتلَّة، بعد ان وفّرت له كل شيء مجانا، ثم قامت باقتلاعه بقرارٍ سياسي، بعد ان اغدقت عليه اموالا طائلة، وبين وضع مهجَّرٍ طُرد من قريته وصودرت ارضُه وتُرك دونما دعم، ليرمّم حياته من جديد..هذا الموقف اللامنطقي اغاظني للوهلة الاولى ثم ما لبث ان اضحكني لانه ذكرني بقصة جميل ابو شنب:
يقول الراوي ان جميل مرزوق ابو شنب الذي كان معروفا في سنوات الاربعين من القرن الماضي، بكونه لصّا محترفا، قد قام بسرقة حمار من القرية المجاورة لقريته الجليلية، وبتخبئته في مكان آمِن تمهيدا لبيعه في سوق الخميس في بنت جبيل في جنوب لبنان. وصل جميل مع الحمار الى السوق في ساعات الظهيرة. كانت الحركة في السوق قد اضحت خفيفة فلم يتقدم احدٌ لشراء الحمار. هذا الوضع اقلق جميلا، إذ خشي ان يعود الى بيته مع الحمار فينكشف للناس امر السرقة. مرّت الدقائق ثقيلة على جميل، فارتفع منسوبُ قلقه وكاد يفقد امله في تحقيق مبتغاه، لكن إقبال احدهم عليه والاهتمام بالحمار، قد غيّر المعادلة وبعث في نفس جميل املا جديدا. كان القادم يحمل على رأسه طبقا مملوءًا بالكعك. وضعَ الطبقَ جانبا واخذ يتحسّس الحمارَ ويساوم على شرائه. واخيرا تم الاتفاق بين الطرفين على مبلغ معين من المال. توقّع جميل ان يقبض المبلغ المتفق عليه، ويسلّم الحمار الى المشترِي. لكن الاخير(اي المشتري) قال فجأة لجميل: "يبدو لي ان حمارك يعرج!". رفض جميل على الفور هذا الادعاء الباطل، مؤكدا للشاري ان الحمار سليمٌ ومعافى. لكنّ الشاري بقِيَ مصرّا على إدعائه، قائلا لجميل: "طيّب، إذن خليّني اجربه ".
ناول جميلٌ الرسنَ الى الشاري، فسارع الاخير الى امتطاءِ ظهر الحمار ولكْزِه بسرعة، فاندفع الحمار الى الامام، ثم انطلق راكضا بعيدا عن جميل، حتى اختفت آثارُه. انتظر جميل لحظات قبل أن يأخذ القلقُ يساوره بانّه قد وقع ضحيةَ مقلبٍ محكم، وان الشاري المزعوم قد فرّ بالحمار. انتظر جميل لحظات طويلة دون ان يعود الحمار فاصبح الشكُّ لديه يقينا، ولم يبق امامه إلا ان يحمل طبقَ الكعك الذي تركه "الشاري"، ويعود الى قريته والى بيته خائبا مكسور الخاطر. كانت زوجته بانتظاره وقد بدت واثقة بانه قد باع الحمار، سيما بعد ان رأتْه عائدا مشيا على قدميه وبين يديه طبق الكعك الذي ظنّتْه هديةً لها وللاولاد من سوق بنت جبيل، فسارعت الى سؤاله: "بكم بعتَ الحمار؟". فاجابها قائلا: "بعتو براس مالو وربحت عليه طبق كعك".
هذه الطرفة التي تذكرتُها، ما لبثتُ أن رويتُها في ختام المناظرة كجزء من الإجمال، فاستدرَّت ضحكَ الكثيرين من المستمعين، كما سمعتُ احدَهم يعلّق قائلا: "لكنَّ المستوطنين لا يعودون إلا مع طبق مليء بالدولارات".