في ذكرى صديق
رثاء المرحوم المربي نسيب جريس شحادة
بقلم ناصر بصل
عرفت المرحوم المربي نسيب شحادة معرفة خاصة منذ نعومة أظافيري حيث نشأنا في حي قديم من أحياء القرية ، الحي القبلي الذي يمثل أحد العناوين الحقيقية لتاريخ هذا البلد الشامخ.
امتاز هذا الحي بعلاقات الصداقة الحقيقية التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولا تصدأ أبدا. صداقة تحمل في أجوافها معان حقيقية لا أطماع فيها ولا مصالح.
كبقية أحياء كفرياسيف التاريخية أرسلت حارة الفقيد خيرة أبنائها إلى أعلى المعاهد العلمية في البلاد وفي الخارج ، طلابا، معلمين ، باحثين ومحاضرين في ارقى المؤتمرات العلمية. كانت عائلة المرحوم أبو سميح من العائلات المركزية التي سلكت هذا السبيل . تبعثرت عائلات الحارة إلى أماكن مختلفة في القرية وخارجها لكن أواصر الود والصداقة الحقيقية ما زالت تسكن في قلوب أبنائها. سكنت في قلب المرحوم نسيب صديق الثقة والأمانة كلما رأى احد أبناء الحي السابقين.
عرفت المرحوم طالبا مميزا ومتفوقا خصوصا في المواضيع العلمية فاستعنت به كثيرا في مساءل الحساب والهندسة ، خصوصا بعد التحاقه في أول فرع علمي في مدرسة يني الثانوية حيث انه آمن ان دراسة العلوم والتكنولوجيا هي المستقبل الواعد لكل امة.
كان المرحوم أول الحاصلين على شهادة البجروت في الفرع العلمي والتحق بعدها بالجامعة العبرية حيث درس الرياضيات والفيزياء وعاد الى القرية لتعليم هذه المواد في مدرسته السابقة . عاد مؤمنا بتحضير أجيال جديدة تهتم بدراسة المواضيع العلمية ، مواضيع المستقبل . سيذكر المرحوم انه بث روحا جديدة في المدرسة، روح تقدير دراسة العلوم وممارستها.
بعد نهاية دراستي بالقدس التحقت بالهيئة التدريسية لمدرسة يني الثانوية فوجدتني بين مجموعة من الزملاء الحقيقيين كان بينهم محركهم الأساسي الأستاذ نسيب شحادة. كانت هذه المرة مركزية في حياته مدرسا ومربيا ومديرا لصرح كفرياسيف العالي، مدرسة يني الثانوية.
كجار بالحارة وكزميل قريب منه واكبت يوميا عمل المرحوم وشاهدت بأم عيني إخلاصه المتناهي في تحضير المواد العلمية لطلابه، تحضير التمارين لإعداد جيل جديد من الطلاب يتقدم لامتحانات البجروت وينجح بها بعلامات عالية جدا، لا مثيل لها، ويقبل بواسطتها هذا الجيل إلى أهم المواضيع وأصعبها .
عرف المرحوم مدى كبر المسؤولية الملقاة على عاتقه فقدم أضعاف ما عليه أن يقدم لطلابه كمدرس وكمرب . كل ذلك دون طلب من احد با ربما نتيجة لشعور خفي دفعه إلى العمل الجاد والمثمر بهدوء وأمانة وإخلاص دون أن يتظاهر بما يقدمه لطلابه ولبلده ولشعبه. لم يفتش عن النرجسية والتعالي والشموخ بل عرف أن هذه الصفات لا تبث بصلة لكبار الناس بل لصغارهم، فكان المرحوم ينضح بما فيه من تواضع وجدية ومهنية وإخلاص متناهي في عمله وفي خدمة شعبه.
عندما كان الأستاذ نسيب مديرا كان عنوانا للمهنية والموضوعية في العمل. تعامل بلباقة وحكمة مع كافة أعضاء الهيئة التدريسية ، لم يميز أحدا على احد بل أعطى كل ذي حق حقه. لم يخطئ ولم يسئ لأحد.
كان هذا نسيب الصديق ، المتعلم ، المثقف ، رجل العمل الجاد ، المهني ومربي الأجيال ، لكن نسيب الإنسان – الإنسان المتواضع ، المعطاء والمحب لا يقل أبدا عن سابقه ، بل سيبقى مثلا وعلما للأجيال القادمة.
عرف المرحوم أن لا قيمة لما تعطيه ما لم يكن جزءا من ذاتك ، فقدم كل ما يستطيع لطلابه وزملائه . عرف آباء الطلاب أن يشكروه فقط على عطائه المتفاني لأبنائهم. لبى كل طلب صادق ولم يخيب آمال أحد . عرف الجميع انه يعطي ما عنده دون حساب من اجل خير الآخرين .
المحبة – هذه الكلمة العملاقة ، عرف المرحوم قيمتها وتخذها طريقا وسلوكا في تعامله مع الناس. تسامح مع المسيئين له ، فعرف كيف يحب أعداءه ويبارك لاعنيه.
بفضل المرحوم الأستاذ نسيب شحاده أنهى الكثيرون دراستهم الثانوية وبفضله قبل الكثيرون إلى الجامعات . لا شك أن اسمه سيسجل في قائمة الخالدين من أبناء كفرياسيف الذين قدموا بالفعل خدماتهم لأبناء بلدهم ، بنوا المدارس والمعاهد ، شيدوا المؤسسات وزرعوا بذور الحضارة الخاصة لهذا البلد .
رحم الله الفقيد والهم زوجته وبناته وأخواته وأقاربه الصبر والسلوان.