العذوبة التعبيرية والتدفق العاطفي في قصائد ديوان"سواقي الهوى" للشاعر عبد حوراني
بقلم: الدكتور منير توماكفرياسيف
يُطِلُّ علينا الشاعر عبد حوراني بقصائد حبٍّ وغزلٍ يمتاز بالرقة والعذوبة والسلاسة لفظًا ومعنىً من خلال ديوان "سواقي الهوى" الذي يتمتع بفرادةٍ لافتة من حيث كون قصائد الديوان من الشعر العمودي الموزون المقفّى مما يضفي عليها الطابع الكلاسيكي بشكله، إلاّ أنّه يصوِّر معاني وأجواء غامرة من عالم الرومانسيّة الحافل بأوصاف مفاتن المرأة في نشوة جمالها وأطيابها وألوانها، منطلقًا ليعالج ذلك معالجة الهائم الذي يبغي امتداد الشوق الذي يطلب الاستزادة، ويطلب الإمعان في العطاء الجمالي المتبادل عطاء الجمال والنشوة من ناحية المرأة، وعطاء البيان الساحر مِن قِبل الشاعر. فمن جهة نلمس الجمال لدية جمالاً حسيًّا ظاهريًا، ومن الجهة الأخرى يحدثنا الشاعر عن لواعج القلب وأشواق النفس وعذاب الروح، وكأنّ الجسد الأنثوي قد استهواه فملكَ عليه لبَّهُ وأفكاره، فتاه في جمالِ العيون ورشاقة القوام ومباهج العشق. وصوّر لنا الجمال الخارجي عند المرأة بأحسن ما يكون من الصور والأوصاف التي تبرز ذلك الجمال. وفي الأبيات التالية من قصيدة "الصقر العاشق" تصوير وتجسيدٌ لهذه المعاني:
يا نكهةَ البُنِّ عينُ الظبي تغبِطُها
مِن غيلةِ الدهرِ والرحمنُ عافاهُ
سمراءُ هيفاءُ والألحاظُ تأسِرُنا
لمّا التفتنا فصِرنا ضِمنَ أَسْراهُ
قد عشتُ عمريَ والأيامُ مدركةٌ
والقلبُ نالَ جميلاً ما تمنَّاهُ
ما زلتُ أعشقُ والأشواقُ تغمُرني
إني كما الصقرُ لا يُخفي نواياهُ
ويتابع انفعاله، وقد ارتفعَ في غزلهِ وعشقهِ وسما بهما الى مكانه رفيعة، وخصوصًا فيما يتعلق بعنصري الصياغة والألفاظ، قائلاً في الموضع نفسهِ:
إني على العهدِ في عشقٍ وفي وَلَهٍ
حتى يبيتَ فؤادي ضمنَ قتلاهُ
باللّه نُقْسِمُ أنَّ الحبَّ مذهبُنا
فالحبُّ عُرْفٌ ودينٌ قد جعلناهُ
وبقراءتنا لقصائد المجموعة، نرى أنّ معظم شعر الأستاذ عبد حوراني في هذا الديوان ينمّ عن ذوق في اختيار اللفظة ووضعها بحيث توفر لأبياته المتانة والانسجام والإيقاع. فلو قرأنا له الابيات التالية من قصيدة "لا تزرع الوُدَّ" التي يقول فيها:
أثارَ بُعدكِ دمعًا في مآقينا
هامت بحورٌ على حبٍّ لماضينا
لا تزرعِ الوُدَّ إلاّ في مواضِعِهِ
تحيا سليمًا وعينُ اللهِ تحمينا
للهِ أشكو خليلاً كنتُ أعشقُهُ
فيهِ انتظرتُ ربيعًا كان يكفينا
إنَّ القلوبَ التي ما زالَ نابِضُها
يهفو إليكِ ونارُ الهجرِ تكوينا
لرأينا الشاعر واءَم بين المعاني والأصوات، فمثلاً اختار لفظة "تحمينا" التي لا تجاريها لفظة أخرى في موضعها، وكذلك لفظة "نابضُها"، وعيارُ نارُ الهجرِ تكوينا". فمن هنا ندرك السر الجمالي للكلمة التي تجيء في مكانها المناسب. ومثل هذه الكلمات والتعابير الموحية التي تؤثر في القارئ، وتوحي له بالكثير من الجمال والعذوبة، إنّما استمدت جمالها من سياق التركيب والتجانس مع رفيقاتها، لأنَّ التعابير والكلمات مجموعة من الألفاظ رُتِّبت ونُسِّقت بشكل معين، وعلى ترتيبها وتنسيقها وتألف مجموعاتها تتوقف قيمتها الأدبيّة.
وفي قصيدة "نشوة الحب" نشهد كذلك أسلوبًا غنيًا بالتعابير الجميلة الموحية، يقول شاعرنا عبد حوراني:
تاللهِ ليلى شغافُ القلبِ تلتهبُ
والليلُ ولّى وعينُ النجمِ تنتحبُ
أنتِ ودروبُ الشوكِ تمتعني
مِنْ وصْلِ حُبٍّ وقلبُ الليلِ يضطربُ
كيفَ السبيلُ الى عينيكِ مُلهمتي
تحتَ البحارِ جميلُ الدُّرِ يَحْتَجبُ
ماذا أقولُ وبالأرزاء لي قَدَرٌ
أَأَتركُ الطلَّ من نَهْدَيكِ يقتربُ
إنّي على العهدِ لم أهجُرْ مودتكُم
فالعهدُ دينٌ وقد أفْضَتْ بهِ الكُتبُ
أنتِ الحبيبةُ حقًا أنتِ مُلهمتي
جسَّ الطبيبُ اذا ما مَسَّني النَّصَبُ
في هذه القصيدة نلمح جمال الألفاظ ورشاقتها وايحاءاتها وملاءَمتها للمعنى ثم حسن السبك في بنائها وتستوقفنا الكلمات التي ربطت بإحكام أبيات القصيدة فأضفت عليها جوّاً شاعريًا انسيابيًا، فكلمات مثل: "شغاف القلب"، "تلتهبُ"، "تنتحبُ"، "ينتشي"، "يضطربُ"، "يحتجبُ"، "الطلّ"، "أهجر"، "جسَّ الطبيبُ" – ندرك لدى سماعها بأنها جاءت في مكانها المناسب وشغلت حيّزاً لا يمكن أن تشغله أية كلمات أخرى إلاّ بجُهْدٍ مَضنٍ، كما أنّ القافيةِ ساهمت مساهمة فعّالة في روعة الأسلوب ونغمِهِ المصبوغ بالحزن والتوتر والحنان.
إنَّ شاعرنا يبتغي في هذا الديوان أن يبحث في شعرهِ عن الأناقة، وعن الصفاء اللذين يحققان وحدة المعنى واللفظ، فكل شكل هو شكل المضمون وكل مضمون، إنّما يعبّر عنه بشكل خاص، وهكذا نرى شاعرنا ينكّب على المفردات والتعابير، فيختار منها الجميل، النقي، المُحَبّب، ثم يروح يهندس الأمكنة لمخصصة لها، ببنيان معبد الحب الخاص بهِ، فيغيّر هنا ويبّدل هناك ولا ينفك يفعل ذلك حتى يكتمل بنيانه مُجَسَّدًا في قصيدته التي تغدو في حالة شاعرنا الغزلية الحبيّة معبد الفرح، تلك القصيدة التي تستوجب عنصراً مهمًا من عناصر الفرح بالذات هو عنصر النغم أو الموسيقى، لأن الموسيقى كفيلة باستحضار الصفاء والنقاء.
وتتجلّى هذه المعاني في قصيدة "درٌ ثمين" التي نختار منه ما يلي من أبياتها:
أنا لن أُغني للغريب قصائدي
عند الحبيبِ وقد نصبتُ قواعدي
يا جنةً غنّاءَ فيكِ طلاوةٌ
ما ابدعَ الفنّانُ مثلَ قصائدي
يا قَدَّها الميّاس فيكَ حلاوةٌ
ما أنجزَ العشّاقُ مثلَ وسائدي
بدرُ التمامِ ومنكَ كلُّ لواعجي
فيكَ الهمومُ تُثيرُ فيَّ شواردي
وأُسائلُ البدرَ التمامَ حبيبتي
عفوًا نجومُ الليلِ تلكَ عقائدي
من اللافت في قصائد ديوان "سواقي الهوى"، أننّا لا نستطيع الفصل بين الحب والشعر عند شاعرنا عبد حوراني، فالحب عندهُ مادة الشعر، والشعر عنده أغنية الحب. وشاعرية عبد حوراني مستقاه من المرأة التي ألهبت عروقهُ وكانت الوهج في ألوانِ كلامهِ أفرغَ عطرها في دمه فعلا شعرهِ عبير منهل فوّاح، فهو شاعر الإحساس العنيف، والثورة العاطفية المتقدّة، فالإحساس عنده انصهار كيان، فهو يكتب بآلامهِ وأحلامه، بصدقهِ وإخلاصهِ وايمانهِ، بصوفية مُبَطَنّة هي الحريّة في الفن التي تتصدّى للقاعدة والتقليد دون ابتذال، وتسمح للشاعر بأن يخلق الشكل الذي ينسجم مع ذوقهِ الشخصي وموهبته الفردية.
وهكذا يمكن اعتبار الأسلوب الرومانطيقي عند شاعرنا أسلوب الحرية والموسيقى والحياة المجسّدة في الصور المؤثرة بعُنف واقعيتها كما يتمظهر في الأبيات التالية من قصيدة "ثورة العطر" التي جاء فيها:
كثيرُ العشقِ لهوٌ غيرَ عشقي
ملأتُ الأرضَ من شدوي صداحا
نثرتُ الوردَ في أعطافِ حبَي
فثارَ العطرُ في صدري وفاحا
أتيتُكَ يا حبيب قلتَ مَرْحا
حضرتُ مع المساءِ فطبتَ راحا
تراءتْ لي فنامتْ تحتَ رمشي
ضَمَمْتُ القدَّ هَمْتْ فصاحا
ويا ربي فإني قد غَفَفْتُ
وحاربتُ الرذيلةَ والسفاحا
وإنّي عبدُكَ المفتونُ دومًا
فَهَبْ لي مِنْكَ مولاي السماحا
فإني والقوافي في سجالٍ
على حسناءَ قد أرختْ وشاحا
خلقتَ لنا الجمالَ بكُلِّ لونٍ
فهامَ القلبُ في الدُنيا وناحا
وانطلاقًا من هنا نرى أنَّ شاعرنا يجمع عدة خصائص في أسلوبهِ، فيثور على القيود القديمة بحريّةٍ منضبطةٍ هادفة، ويبعث في أبياتها أصداءَ نفسِهِ المضطربة في جَزْرِها ومدّها، ويجعل في رومنطقيتهِ روح التوبة والغفران والتقوى والاحتشام، فيفزع الى الله داعيًا مستغفرًا، ويحنو على ضعف البشر في عاطفة ملتهبة نحو الجمال، وروح يلفّها الإيمان، وتحييها المحبة التي يهيم بفعلها ويستظلُّ بها في هذه الدنيا.
وخلاصة القول، إنّ شعر الغزل والحُبّ عند الشاعر عبد حوراني هو استحضارٌ تصويري للمحبوب في شتى مظاهرهِ وشتى آياتِ فتنتهِ، يعرض لهُ في تأنٍ وتأمُّل باخراجٍ جماليٍّ لفظًا ومعنىً حيث أنّ كل لفظة تنزل في محلها، فلا إضطراب ولا تعقيد، وبالتالي يمكننا أن نقول أنَّ شعر الاستاذ حوراني يتسِّم بالأناقة الكلاسيكية والعذوبة الرومانطيقية، فجاء شعرهُ في هذا الديوان شعر التأني، والتأنُّق الواعي، والدقّة التعبيرية التي تجري فيها الألفاظ سخية، سهلة، رقيقة وشفّافة.
فلشاعرنا الكريم، أجمل التهاني وأصدق التحيات مع أطيب التمنيات بدوام التوفيق والمزيد من الإبداع والعطاء.