عودتنا الدولة عبر السنين أن تحطمنا بين الحين والآخر لكي تهبط عزيمتنا إلى الحضيض أكثر فأكثر كمجتمع عربي. فبين الحين والآخر تسقينا حقنة يأس لكي يصيبنا الإفلاس الفكري والأخلاقي على حد سواء, وبهذا تكون قد تقدمت خطوة أخرى اتجاه هدفها ازاء المجتمع العربي ألا وهو تدميره كليا فكريا, اقتصاديا, أخلاقيا اجتماعيا وسياسيا. وكل ذلك من خلال جيش غير مرئي, تجنده لتغزو به العقل العربي ليقع تحت وطأتها ذليلا منهارا محتل.
فبعد أن عاش المواطنون العرب منذ عام الاستقلال على هذه الأرض تحت مسمى الطابور الخامس الذي لم يتم التخلص منه كليا على الرغم من استعمال شتى طرق التهجير والتضييق, بقي المجتمع على حاله كقنبلة موقوتة, حتى وجدت الدولة لنفسها مخرجا آخر لشرذمته وتدميره كليا خشية منه وخوفا من تقدمه وتكاثره وتعدد نجاحاته. وجاء ذلك عبر التدمير النفسي الذي إذا أتى على شخص قتله فما بالنا إن فتك بمجتمع كامل!
شتان بين الإعلام الحر والإعلام المجند المسيس.
الأول تعمير والآخر تدمير.
لعب ومازال يلعب الإعلام بشتى أنواعه دورا مهما في الحياة الاجتماعية. إذا جاء حرا إيجابيا جلب معه الطموح والأمل نحو فكر سليم وإذا جاء مجندا مسيسا سلبيا حطم النفوس ورماها في بحر التفكير الشائب! وهذه إحدى أهم الأفكار الجهنمية التي تبنتها الدولة. حيث جندت الإعلام لصالحها كي تأتي على كل ماهو عربي حتى تقضي عليه بهذه الطريقة الغير مباشرة, متخاذلة العقول االعربية النيرة القليلة التي اكتشفت بسهولة هذه اللعبة, إلا أنها لم تهتم لهذه الأقلية من العقول, لأن جل همها منصب على الأغلبية الساحقة التي تنجرف وراء الإعلام الكاذب بغية التضليل فاستمرت في نهجها حتى يومنا هذا.
أخذ الإعلام على عاتقه منذ تجنيده نشر صورة سلبية مخيفة عن المجتمع العربي حيث تتصدر الأخبار العنيفة والمخيفة كجرائم القتل والسرقات والانتهاكات والطعن في المجتمع العربي منذ سنوات عديدة العناوين الرئيسية حتى تحولت لشبه روتين يومي. إن الروتين يقتل المشاعر والأحاسيس فتبلدت مشاعر المجتمع ازاء هذه الجرائم, علما أن في المجتمع اليهودي نسبة لا يستهان بها من جرائم مقززة أيضا وتهم موازية والتي بالمقابل لا يسلط عليها الضوء. ففصل رأس زوجة على يد زوجها من المجتمع اليهودي لا يقل أهمية واشمئزاز عن قتل رجل عربي لزوجته بإطلاق نار. وقتل طفلين رضع على يد والدهما اليهودي لا يقل أهمية عن قتل شاب عربي لشقيقتيه. والتسبب بمقتل شاب عربي في مقتبل العمر على يد سائق يهودي اجتاز الإشارة الحمراء لا يقل أهمية عن سائق عربي دهس رجل وتسبب في موته. لكن هذا التعظيم والتضخيم للقضايا العربية ونشرها عبر القنوات والمواقع بكثافة يأتي بهدف التشويه وليس بهدف إيجاد الحل المناسب, حيث عمل الإعلام له أبعاد مخيفة ضد المجتمع العربي وصورته الحسنه, فهو يصوره بأبشع صورة ويبثها على هذا النحو حتى بات المجتمع وكأنه أكثر قذارة وأسوأ حال. إضافة إلى إقحام الكثير من أساليب الإقناع والمبالغة حتى تصل للمتلقي بسلاسة أكثر وأسرع لتصيب عقله حد الاقتناع بكل ما ينشر.
أصبحت مهمة الإعلام الأولى والأخيرة تزويد عقول الناس بالأفكار التي تريدها الدولة وبهذا غذت عقولهم بأفكار وملأت قلوبهم بمعتقدات غير صحيحة حتى بات ذلك أشبه بحقيقة يؤمنون بها جل إيمان. وبهذا اضطربت طموحاتنا وتدنت ثقتنا بنجاحات مجتمعنا.
آخر هذه الأخبار كانت قضية تزييف شهادات عدة تخصصات في الطب لأشخاص عرب, حملت هذه الهجمة الإعلامية المخيفة عنوان "رخصة أو "شهادة للقتل" وجرمت كل من تم اعتقاله وقامت بالتعميم, ليصبح أطباءنا في خانة الإتهام.
من الممكن أن يكون هناك فعلا تزييف لعدد معين من الشهادات, لكن تعميم التزييف على كل من درس في أرمينيا كان خطأ فادح. فمن درس هناك ونجح بكده واجتهاده فعلا قد تضرر اسمه بعد هذا التعميم, حتى لو كان بريئا وبعيدا كل البعد عن الشبهات. إضافة إلى ذلك فقد نسبت التهم إلى الطلاب فقط! دون مراعاة لاحتمالية عملية نصب ضدهم والأنكى من ذلك أنها لم تأت على ذكر أي من المسؤولين عن امتحان الدولة علما أن هناك طلاب اجتازوه!
تتمة لمسيرة التدمير النفسي والفكري جاءت هذه القضية لتأخذ حيزا كبيرا في عقول الكثر. حيث أتت هذه القضية محملة بأسماء عربية مختلفة, أرقام مخيفة, ومناطق عربية شتى, لتحبط عزيمة كل شخص آمن بالقدرات العربية الموجودة لدينا على هذه الأرض وخاصة القدرة على خوض مجال الطب. فكما هو واضح من خلال الإحصائيات, اجتاح طلابنا العرب موضوع الطب ونجحوا في كسر الحواجز الصعبة فالتحقوا في كليات وجامعات الطب داخل وخارج البلاد, وازدهر هذا التخصص بطلابنا العرب وأصبح يتخرج من هذا المجال عدد هائل من الطلاب العرب الأكفاء بالإضافة إلى الطلاب الذين يدرسون الطب في الخارج ويجتازون امتحان الدولة عند عودتهم بجدارة. وهذا ما أدهش البعض وزرع الخوف في نفوس البعض الآخر.
بعد أن تمت المصادقة على إضافة عشرات ملايين الشواقل من قبل لجنة التخطيط والتمويل لطلاب الطب الشهر المنصرم, أتت هذه القضية في الشهر الحالي بالتزامن, لتوقف ما تم تخطيطه ولوضع حد لازدياد انخراط الطلاب العرب في كليات وجامعات الطب من خلال التشكيك بقدراتهم.
تأتي هذه الأخبار بغية ضرب اسم المواطن العربي لدى المواطن العربي الآخر. حتى يصبح المواطن العربي في عين أخاه مجرما سارقا خائنا وأخيرا طبيبا قاتلا!! ويعتمد هذه الأفكار ويحولها إلى معتقد يلازمه, وبهذا يكون قد وقع في فخ جيش غزو الأفكار المغلوطة الغير مرئي, ووهن أمامه.
أفقدتنا الدولة ثقتنا ببعض شيئا فشيئا واستمرت في نهج فرق تسد حتى بتنا مفرقين, متباعدين, متشرذمين, نسيجنا ممزق يصعب جدا إصلاحه مرة أخرى.
لطالما أراداتنا الدولة مجتمعا محدود الدخل ومحدود للفكر أيضا, لتتمكن منه وتسيطر عليه بجميع الأصعدة, وهذا النجاح الطبي قد خالف قوانين لعبتها هذه المرة.
لست مع الاستهانة بأرواح الناس بكل تأكيد, ولا الاستهتار بالقانون أو التخاذل عنه, على العكس تماما أنا ضد كل ما هو غير أخلاقي أو إنساني. بل أنا مع التحقيقات أثناء وجود خلل أو شك معين. لكن بالمقابل أدعو لإظهار الحقائق والدلائل الفعلية دون الاكتفاء بالاتهام! التحقيق في هذا الموضوع واجب وقطعي, لكن لا أن يأتي على حساب ضرب اسم الأطباء العرب عامة في البلاد من خلال تضخيم مخيف واتهامات لم تؤكد حتى يومنا!
تحقيق فعلي جدي, إثباتات وأدلة حقيقة واضحة ومن ثم الخروج للإعلام لكي يكون نزيها, شفافا, واضحا وكافيا للإجابة على جميع الأسئلة التي تراود المتلقي.
لو سلط الإعلام الاسرائيلي الضوء على النجاحات العربية كما الفشل؛ لكانت النتيجة عكسية حتما!
(الوعي ونشره واجب.)