قراءة في كتاب «ممكنات التأويل» لسعيد العفاسي في حوارهِ مع الشاعر ابراهيم مالك
بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف
صدر مؤخرًا كتاب يحمل عنوان «ممكنات التأويل» وهو عبارة عن حوار أجراه الفنّان والناقد التشكيلي ذو الأصل والمولد المغربي المقيم بكفرقرع ، مع الكاتب والشاعر ابراهيم مالك في الشعر والأدب ، ولقد كلّفني الأستاذ ابراهيم أن أُعقِّب على ما ورد في هذا الحوار مبديًا ما يمكن أن يجول في خاطري ويتبلور في ذهني من رد فعلٍ فيما يتعلق بالأفكار ووجهات النظر التي أشار إليها الأستاذ ابراهيم مالك في حديثه واجاباتهِ عن أسئلة الأستاذ سعيد العفاسي بكل ما تحمله تعليقاتي من اتفاق في الرأي مع إجابات الشاعر أو ما قد اختلف معه في بعض النقاط وذلك من خلال تحفظات لها مبررات سأتطرق إليها في سياق الكلام .
يقول ابراهيم مالك " إنَّ تجربته قد علّمته أنّ الشعر هو وليدٌ بِكر ، كالأسطورة للعقل الانساني ، وهو ضرورة حياتية بالنسبة لكاتبيه ، ضرورة بوح عقل الكاتب الإنسان ببعض شعوره ، حسِّه في لحظة محدّدة" . وهنا أتفق مع الأستاذ إبراهيم في روح مقولتهِ هذه ، وأود أن أضيف أنَّ الشعر هو كعربةٍ يجرها حصانان : العاطفة والوجدان ويسوسها العقل ، وهذا الأمر يتماهى مع ما يقصده الشاعر ابراهيم مالك . ولكن يردف الأستاذ قائلاً : " إنّ الشاعر الكاتب أو الراوي الغرِّد ، كما كان في القديم ، لا يستطيع الصمت حين يَتَفجَّر هذا البوح . وإنْ التزم الصمت الدائم ، فقد يُعَجِّل أوان موتهِ " . فإذا اعتبرنا كلام الأستاذ ابراهيم هذا مجازيًا ، وكما نعلم أنَّ من أهم الآليات في كتابة الشعر وتحليل نصوصه ، هو المجاز اللغوي وتحليل الصور المجازية التي ترد في هذه النصوص . فالصورة ليست بالضرورة مرئية ، بل إنه يمكننا أن نجد صورًا لا يمكن للعقل الإنساني تخيّلها ولكنه مع هذا يمكنه أن يحسها ويدركها . كما أنّ الصور يمكن أن تكون سمعية ، بل إنَّ الصمت نفسه يمكن أن يكون صورة . وعند هذه النقطة أريد أن أقول أن صمت الشاعر أحيانًا قد يشكِّل جانبًا مهمًا في حياتهِ وقد يستمر طويلاً ويكون هذا الصمت رمزًا للهدوء الذي تعقبه عاصفة الشعر الفيّاض المتفجّر نحو ابداعٍ متميّز فتكتب للشاعر حياة أو ولادة جديدة وليس موتًا ، بل تجدّدًا وفقًا لما يقوله الأستاذ ابراهيم .
وحين يطرح الشاعر ابراهيم مالك الفكر بأنَّ " الإبداعات متشابهة ، لكن هناك بينها فروق وهذه الفروق هي فروق همسات عقل ، فهمه وموسيقاه الداخلية وظروف حياتهِ الشخصية وحياة مجتمعه وعالمه الواسع ، يبدأها الشاعر مثلاً حين يبدأ يصغي لبوح قلقه ، فكره ، رؤياه ، عشقه وحلمه " ، فإننا نرى أنّ التجارب الحقيقية على الصعيد الإبداعي لا يمكنها أن تتأسس إلّا على قاعدة الإختلاف ، ولا يمكنها أن تنبني فقط على "الجامع" الأسمي حين لا يتشكّل على خلفية نظرية أدبية واجتماعية دقيقة ، لا يمكنه إلّا أن يكون مدعاة للالتباس وعدم الوضوح سواء على صعيد التجربة أو القصد الإبداعي ، وهذا هو ما طارئ في واقعنا الحالي .
وحول الموسيقى الداخلية للقصيدة يقول الاستاذ ابراهيم مالك : " واقنعتني هذه التجربة أنّ الشاعر يجمل به أن تكون قصيدته وليدة موسيقى داخلية ، هي موسيقى أحاسيسه وهمس كلمات وحروف ذات إيقاع خاص ، ملون ومتعدّد ويجمل به الّا يحبس عالمه الشاعري فيما يرى فيه البعض أهم شروط القصيدة – الوزن والقافية -، فالشعر يجمل به أن يكون منطلقًا في عوالم مُلوَّنه كزقزقة عصافير هامسة أو صارخة أو غردة " . وفي هذا الرأي أجد قناعة تكاد تكون تامة فيما يقوله الاستاذ ابراهيم مالك ، وقد سبق للشاعر الكبير الأستاذ نزار قباني أنّ عبّر عن مثل هذا الاعتقاد بأن قال : دع الشعراء على سجيتهم ولا تكبّلهم بتقاليد الشعر القديمة ، فالعصفور لا يمكن أن يُقال له كيف يغرِّد على الأغصان ، بل يعبِّر في زقزقته عن إحساسه بالحرية والانطلاق ، ومن هنا نستنتج أنَّ شاعرنا ابراهيم مالك من أنصار الشعر الطليق ، وتبعًا لذلك فهو يلتقي مع مختلف ممارسات الانسان المتسمة بالسمات الانسانية وانتاجاته الفكرية الهادفة بسموها ، مهما تغيّرت ألوانها أو تعدّدت صورها ؛ وبهذا التحديد يغدو فكره الأدبي متصلاً بمختلف أصناف التفكير التي ينشغل بها الإنسان ، ويتفاعل معها ، ويستفيد من مختلف معانيها إذ هو جزء منها بملامحه الخاصة واللافتة . وهذهِ المعاني والأفكار التي أتينا بها هنا بشأن شاعرية الأستاذ ابراهيم مالك هي انعكاس وتجسيد لما يورده في اجاباته بأنه وليد التلاقح الثقافي ، فهو يقول في هذا السياق : "فأنا ، وللحقيقة ، مُوزَّع الانتماء بين مغربيتي وبين مشرقيتي وإنسانيتي العالمية ، ففي عروقي تجري دماء مختلطة ولا شك أنَّ هذا ترك بعض الأثر في شاعريتي " . وننتقل الآن إلى إجابة الأستاذ ابراهيم مالك عن سؤالٍ حول موضوع النقد حيث أنّنا نتفق معه في جزء كبير من إجابته ، ونختلف معه متحفظين من الجزء الآخر من رأيهِ في النقد ، وقبل الخوض في ذلك ، نورد ما قاله بهذا الشأن : "ثمة مسألة أود الإشارة اليها ، هي أنّ النقد ليس لقبًا أكاديميًا ولا يُعَلَّم مهنيًا ، الدراسة الأكاديمية قد تطوِّر مواهب ، لكنها لا تخلق مواهب ، يطوِّرها ويعلمها ، هو القراءة والكتابة ، المثاقفة الانسانية والحرص الدائم على مزيد من المعرفة والتجربة . فالنقد الأدبي الحقيقي يفترض الإلمام بمعرفة اللغة والاهتمام بخصوصية كتابةٍ ما والكشف عن جمالية تلك الكتابة مضمونًا وأسلوبًا أو أسلوبًا ومضمونًا ، والكشف الجديد فيها وغير المكرّر " .
إننا نتحفظ من رأي شاعرنا بأنَّ النقد لا يُعَلَّم مهنيًا أي أنه ليس علمًا الى حد كبير ، علاوةً على كونهِ فنًّا في الوقت نفسه ، فإن قيام النقد علمًا هو مبدأ ضروري لتقدم الدراسات المتعلقة بالأدب . وهذا المنحى يصل الحاضر بالماضي ، ما دام القدامى نادوا بضرورة "علمية النقد" أي أن يكون النقد ممارسة علمية . وهكذا نرى في ثقافتنا المعاصرة ثلاثة أدوار داخل اطار الخطاب النقدي نفسه ، وهي : النقد الجامعي ، والنقد الذي يتم في إطار الحركة الثقافية العامة ، والنشاط التعليمي أو المدرسي الذي يستهدف تدريب نقاد المستقبل ودارسيه .
وانطلاقًا مما ذكرناه هنا ، فإنّ العديد ممن يعتقدون بأنهم نقّاد يمارسون النقد الأدبي، نجدهم من أصحاب الأَفكار والآراء النقدية السطحية والضحلة بطرحهم أمورًا رتيبة شائعة ليس فيها من العمق بشيء ؛ ونحن نعزو جانبًا ملموسًا من ذلك لافتقارهم الى الثقافة الأدبية الأجنبية وخصوصًا أنهم لا يتقنون اللغات الأجنبية الرئيسية كالانجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها ، فلا يقرأون في مجالات الدراسات الأدبية النقدية العالمية سوى بعض قراءاتهم لنصوص مترجمة الى العربية ، بالإضافة الى أنَّ الكثيرين من هؤلاء ليس لديهم معرفة منهجية بالمصطلح النقدي الأجنبي العالمي الذي يتوجب تطبيقه في عصرنا هذا ، وهم يستندون ويتكلون فيما يمارسونه من نقد على الذائقة الشخصية والانطباعات الذاتية ، أي يتعاملون مع النقد الأدبي فطريًا وأحيانًا عشوائيًا دون أن يتّبعوا مبدأ الإبداع النقدي على الابداع المنقود . ومن الطرافة بمكان أنهم يلتمسون لنفسهم الحجج ويحاولون تبرير جهلهم بالمصطلح النقدي الأجنبي العالمي وعدم حاجتهم لمعرفة المدارس النقدية في الأدب العالمي ، بزعمهم وقولهم إنَّ الأديب اللبناني الكبير مارون عبود لم يكن ممن يمارسون النقد الأدبي بالمنهج النقدي التحليلي المتبع عالميًا في هذا العصر ، وبالتالي أردّ عليهم بالقول إنَّ مارون عبود كان حالة استثنائية ، وكان ذا موهبة إبداعية فريدة وذائقة نقدية أدبية متميزة ، علاوةً على إلمامه باللغة الفرنسية وعبقريته في عالم الإبداع الأدبي .
وأخيرًا وليس آخرًا ، نكتفي بهذا القدر من تناولنا لجانبٍ مهم من الحوار الذي يتضمنه كتاب «ممكنات التأويل» متمنين للأستاذين الكريمين ابراهيم مالك وسعيد العفاسي موفور الصحة والتوفيق ودوام العطاء .
كانون الثاني 2019