ليس من الضُّروري أن نحتفل بيوم السَّلام العالمي الَّذي اتّفقت عليه هيئة الأمم المتّحدة بتاريخ 21 أيلول من كلِّ عام، بل نستطيعُ أن نحتفلَ في عيد الحبّ أو ما يُسمَّى عيد العشّاق بعيدِ الحبِّ والسَّلام معاً.
إنَّني أدعو نُخبَ المثقَّفين والفنَّانين والمفكِّرين في العالم أن تدعمَ النُّخب المثقّفة والمبدعة هذا الطَّرح ويطبّقونه في حياتهم على أرض الواقع فعلاً وليس قولاً بالشّعارات الرّنّانة، وأن ندعم ونرسّخَ مشروعنّا من خلالِ الفنِّ سواءً كانَ رسماً أو نحتاً، ومن خلال الكلمة شعراً ونثراً، ولنرفع راية السّلام عالياً في كلِّ بقاع الأرض ونهتف بما قاله السَّيد المسيح: "المجدلله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرة"، كما جاء في الآية القرآنيّة الكريمة للنبي محمّد "وإن جنحوا للسِلم فاجنح لها"، لنزرع حفنة قمحِ مغمورة بالمحبّة في أرضٍ مقفرة عطشى للحبِّ والسَّلام دون النَّظر خلفنا ولا من حولنا مثل فلّاح آمن بخصوبة وثراء حقله حيث لا يسأل الأرض عن محصول أو غمار حنطة، فالإيمان بالحبِّ والسَّلام الدَّاخلي لهما طاقتهما الرَّاقية ولهما سحرهما الَّذي لا يُقاوم وأي حبٍّ مقرون بالإيمان الّذي نتحدَّث عنه والَّذي أشار إليه السَّيِّد المسيح، عندما قال أحبب أخيكَ مثل نفسكَ، وإذا كان لديك ذرّة إيمان وقلتَ لهذا الجبل أن ينتقل من مكانه لانتقل، فهذا الإيمان يتجسّد في حياة الفلّاح الّذي يكافح من أجل لقمة عيشه، سائراً وراء نيره دون أن يلتفتَ خلفه كأنّي به يعكس محبّة الله للإنسان المثابر في سبيل حياة كريمة ملؤها الصّفاء الرُّوحي والنّقاء الإنساني.
فلنحتفل بعيد الحبِّ وعيد السَّلام العالمي، كعيد واحدٍ يتفاعل فيه الإنسان مع روحانيّة السّماء حيث يُغدِقُ الرّب عليه نعماً من فرطِ محبّته لخلائقهِ كما جاء في قول السَّيد المسيح.
إنَّ الله يُرسلُ شمسه على الأبرار والأشرار آمِلاً أن يحيا الإنسان تحت نوره دون أن يميّز بمحبّته أحداً وفي هذا السِّياق فإنّه من المستغرب أن نرى عاشقاً أو محبّاً لمحبوبته أو عائلته وفي الوقت نفسه يرتكب المعاصي والفحشاء والموبِقات والقتل وكل صنوف الشُّرور ضدّ أخيه الإنسان، وهنا يتّضح لنا أن مبدأ الحبّ والسّلام لا يلتقيان عند الَّذين يقولون ما لا يفعلون.
إنطلاقاً من هذه المعاني فإنّني أناشد المؤسّسات والهيئات الرّسمية وغير الرّسمية أن تدأب على ترسيخ أواصر المحبّة والوئام بين البشر لأنّ الإنسان بطبيعته خلقه الله خيّراً ومحبّاً للسلام ولكن الظّروف الاجتماعيّة والعقائد الأيدولوجيّة على اختلاف ضروبها ومشاربها قد جعلت من إنسان العصور المتخلّفة أفضل حالاً من عصرنا هذا المتوحّش الّذي تتنازعه آفات الشّر طمعاً في السُّؤدد والمادِّيات فأفقده ذلك ما منحه الله من روح العطاء والمحبّة وسلام الرُّوح والنّفس ولنتمثّل هنا بقول السَّيّد المسيح لتلاميذه، "سلامي لكم سلامي أعطيكم".
وعطفاً على ما أوردته آنفاً، فإنَّ الإنسان لو أدركَ مدى قدراته وطاقاته الفكريّة والعلميّة لكان بمقدوره أن يجعل من هذه الأرض فردوساً يحيا في ظلاله مع أشقّائه من بني البشر بسلام وإخاء وبمحبّة خالصة، بعيداً عن الحروب والمآسي الّتي يرتكبها الجناة بحقِّ الأبرياء ورافضي العنف في شتّى أنحاء المعمورة.
إنَّ الإنسان بارتكابه للشرور إنّما يناقض شريعة الرّب في كلِّ الأديان والعقائد الرُّوحيّة والإنسانيّة جاعلة منه وحشاً كاسراً لا همَّ له سوى الاستحواذ على ملكيّة وحقوق أخيه الإنسان بافتعاله المعارك الَّتي لا طائل منها سوى الخراب والدَّمار وكان بامكانه أن يستغلَّ هذه الأموال والقدرات في سبيل إعمار هذا الكون وإطعام جائعيه وإسعاف فقرائه بهذا يتحقَّق العدل والرَّحمة وكل ما نادى به الأنبياء والرُّسل ولعِشنا في نعيم أبدي تحت أجنحة الخالق الوهَّاب الكريم.
ومن اللّافت أنّنا في هذا الشَّرق التَّعيس نعاني الأمرَّين من تلك الظَّواهر العنيفة على مدى قرون ويا للأسف لا نجد من معين يُخلِّصنا من هذه العوائق والعقبات لتقدُّم الإنسان في هذا الشَّرق حين يواجه الكثير من ضلال بعض الّذين يعيثون فساداً في الأرض ولا يرأفون بالمستضعفين والمسحوقين، بل يزيدون في قهرهم وقمعهم، فالإختلاف هو مصيبة المصائب، صراع الشَّعب مع سلطاتهم جعلهم لقمة سائغة في فم الغرب النَّفعي، خلاصة القول ما قاله السَّيّد المسيح: " ويلٌ للبيت المنقسم على ذاته ". إنّه تكثر فيه العثرات وما أكثر عثراتنا؟!
وبالتّالي نرى أنَّ الحلَّ الأوحد والمُنقذ للخروج من هذه الضِّيقات والمعضلات بتجديد الفكر وتوسيع الآفاق في فهم جديد للروح الإنسانيّة والعقائد المنفتحة على الآخر وقبوله كشريك له في المجتمع يؤدّي رسالة مقدّسة بالتَّعاون مع وزارات الثّقافة والإرشاد في مختلف مجالات الحياة ببثِّ روح الفكر المتسامح مع كلِّ الإختلافات بين الشُّعوب لجعل الإحترام نبراساً نستضيء به من خلال التَّمثُّل بما هو مفيد ومناسب لمجتمعاتنا كافّة سيّما إذا اعتمدنا أسلوب تعديل بعض المناهج التّعليميّة والتّربويّة الّتي تحمل بين طيّاتها موروثاً ثقافيّاً وبعض النّماذج من فلكلورنا الشّعبي يحضُّ على احتقار المختلف عنّا في الفكر والثَّقافة وفي بعض العادات والتّقاليد، ولكي نصل إلى الهدف المنشود لا بدَّ من استحضار أمثلة ونماذج من التّاريخ وعلم الأساطير تؤكِّد لنا أنَّ الإنسان كان ومازال يسعى إلى تحقيق هذا الهدف المُبتغى، فعلى سبيل المثال لا الحصر رأينا بين صفحات الكتب كيف أنَّ أسطورة جلجامش تُحدثنا عن سعيه إلى الخلود لكنّه وصل أخيراً الحقيقة الدَّامغة بأنَّ الخلود ما هو إلّا شيء رمزي يتحقّق بتواصل الإنسان مع أخيه الإنسان بسلام ومحبّة والتّخلِّي عن الأنانيّة القاتلة الّتي تكاد تودِّي بالإنسان إلى التَّهلكة وخراب الأوطان والحقيقة الّتي استنتجها جلجامش أنَّ الإنسان ليحيا سعيداً في إطار السّعادة النّسبية ولو كانت مؤقّتة لأنّها تتطابق مع الرُّوىء البشريّة المألوفة، فالخلود ههو ثمرة أعمال الإنسان وسلامه الّذي يمنحه للغير.
كما لا يفوتنا ما قد رأيناه في تاريخ وأساطير الحبِّ الّتي تجسَّدت في كينونة آلهات الحبِّ والجمال، كفينوس وأفروديت في التّراث الأغريقي والرُّوماني وعنات وعشتار في التّراث الكنعاني والفينيقي، وقد وصلت كلّ إلهة منهنّ إلى القناعة بأنَّ الخير هو السّبيل الأخير إلى توهُّج الحبِّ والسَّلام والطّمأنينة في كيان الخالق والمخلوق وأنّ الإلهة عنات الكنعانيّة كانت ترمز إلى الخصوبة وكانت تحكم بالعدل بين الآلهة المتخاصمة.
وإن أنسى لا أنسى ذِكر الإله بعل الكنعاني، إله المطر والخصب فهو يمنح الخصوبة للأرض، مانحاً الحياة للنبات، وكان عندما يحدث قحطاً في الأرض كانت عنات تستجديه كي يمنح الأرض الخصب فهو رمز الأمومة الكامنة في حضن محبّته للأرض والبشر، بهذا التَّماثُل بين الأمومة والذُّكورة من اللّاشيء يعطي الحياة إلى نفسٍ توّاقة لحبِّ الأرضِ والوليفِ.
وفي هذا الصَّدد نستذكر ما أوردته أسطورة على لسان الإله بعل قائلاً بما مؤدَّاهُ أن نُبعِدَ الحروب والقتال عن البشريّة بالجنوح الى السِّلِم ونبذ الصِّراعات والنِّزاعات وإحياء الأرض كي نعيش بسلام دائم لتُزهر الحقول وتنمو الحياة، هذا ما ورد في نص أوغاريتي للإله بعل،
أبعِد الحرب عن الأرضِ
واقضِ على المنازعاتِ في البلادِ
ودع السَّلام يتسلَّل إلى باطنِ الأرضِ
ودعِ الصّداقة تنمو بينَ الحقولِ .
بالإضافة إلى ما قاله الأديب الرُّوسي الكبير صاحب رواية الأم الشَّهيرة وهو مكسيم غوركي حيث عبَّرَ عن حبّه للإنسان والدّفاع عن كينونته، لأنَّ الإنسان أقدس ما في الكون من مخلوقات حيث يهفو ويصبو دائماً إلى حياة الطّمأنينة والسّكينة والاستقرار والسّلام.
وخلاصة القول، إنَّ العالمَ لا يستقيم إلّا بالأملِ المنشودِ والرَّجاء المعهود بنشوء مجتمعات تسود فيها روح المحبّة المؤدّية أولاً وأخيراً إلى السّلام الإنساني والاجتماعي والثّقافي والفكري على كافّة الأصعدة محلِّياً، قطريّاً وعالميّاً.