جلس أبو مهنا في غرفتهم المنفردة وهي غرفة صغيرة لا تزيد مساحتها عن اثني عشر مترا مربعا فيها طاولة يعد عليها أولاده دروسهم بدلا من ان يجلسوا على ارض الغرفة وينبطحوا ليكتبوا وظائفهم المدرسية لان في مثل هذه العملية مشقة كبيرة وارهاق للاعين ولاولاده الأربعة الذين كانوا من التلاميذ الاذكياء والنشيطين في البيت والمدرسة وكان تحصيلهم مرضيا وكانت لهم تطلعات وآمال مستقبلية يريدون تحقيقها، ان شاء الله قال أبو مهنا لهم ربنا يرزقنا بحسنتكم وأستطيع أن أعلمكم ليس فقط في المدارس الثانوية، بل في اكثر الأماكن التي ترغبون بها. دعواتكم لنا بالخير والرزق ان شاء الله ونحن متكلين على المولى عزَ وجلَ ليرزقنا بحسنتكم.
كانت زوجة أبو مهنا امرأة صالحة متوسطة الجمال بلغة ألاهل والاقارب في تلك الفترة وعائلتها ليست من العائلات الغنية كما كانوا يصفون عائلة زوجها والتي كانت في الحقيقة من العائلات المستورة ألحال وليست من العائلات الغنية وأهلها على قَد حالهم مثلهم مثل معظم الناس في البلدة الوادعة والتي استقبلت عددا لا بأس به من مهجري ومشردي قرى أخرى مجاورة والذين معظمهم اجبروا على ترك بيوتهم بالطرد منها تاركين ما لهم من أمتعة وحاجيات وأثاث وملابس حتى يقال أن بعضهم تركوا الطبخة على النار قبل أن تنضج أو تستوي كما كان يقول أبو مهنا لزوجته وهربوا خوفا على حياتهم ومما هو آت.وكانت أم مهنا تقول بينها وبين نفسها:صحيح أن حالتنا مش كل ولا بد،لكن ألله يساعد هؤلاء الذين وصلوا الى بلدتنا وليس عليهم سوى الملابس وليس معهم الكثير،وكان زوج أم مهنا يعمل في النجارة العربية وهو عمل ليس بمتعب ويدَر المكسب ان توفرت الزبائن والاقبال على الطلب منه بالعمل في النجارة ولا يخفى على أحد بان الناس في تلك الفترة العصيبة لم تسمح لهم الإمكانيات المادية من بناء المنازل والدور والذي كان بحاجة الى اعمال نجارة كان يحاول ان يرقع ما انكسر أو تلف ونادر ما كانت هنالك طلبيات لعمل أبواب،لكن حيث ان هذه الطلبيات لم تتوفر الا نادرا وعليه فان أبو مهنا كما تقول الختياريات كان فاضي البال ومعظم وقته يقضيه بطقَ الحنك والقيل والقال مع جاره أبو ناجي الذي كان يملك عددا قليلا من الماعز والغنم وعجلة حديثة الولادة،وكان يساعد جاره في حلَبها ويحل محله عندما يذهب جاره أبو ناجي لتوصيل سطل أو اكثر من الحليب الى من طلبه وفي أكثر من مرة ساعده في حساب ثمن الحليب الذي باعه بالأمس وفي أكثر من مرة شرب مع أبو ناجي الحليب الذي كان يبقى عنده دون أن يطلبه أحد من الزبائن لان الحالة كانت كما يقولون شويَ"دائرة" والأموال شحيحة،واحيانا كان أبو مهنا يساعد زوجة أبو ناجي في نقل الحليب لتعده وتروَبه ليصبح لبنا رائبا للبيع،وهكذا لا يخسرونه لانه في تلك الفترة لم تكن هنالك ثلاجات لحفظه أو حفظ الأطعمة وترويب الحليب وجعله لبنا أفضل من كساده،واعتاشت عائلة أبو ناجي من هذا الدخل المتواضع لكنهم استطاعوا الاكتفاء بدخلهم هذا لبينما ربنا سبحانه وتعالى يمَن عليهم بنقود بعد ان تخلَف العجلة والتي أصبحت اليوم بقرة وتعطي كمية لا بأس بها من الحليب يوميا وتأملت أم ناجي بمستقبل افضل فاولادها ما زالوا صغارا.
وكان ألاهالي في القرية مرة كل بضعة أشهريحاولون شراء اللحوم خاصة بحلول الأعياد لدى أبناء الطوائف الثلاث من المسلمين أو المسيحيين او الدروز،وكنَا لا نستطيع التمييز بين هذا وذاك الا من اللبس لكبار السن الذين كنا نجلهم ونحترمهم كثيرا وكلمتهم ما بتصير تنتين،وليس كما هو الحال في مجتمعنا اليوم فاحترام الكبير كان واجبا ويا ويلو اللي ما كان ينهج بموجبه ،اللبس ميَز الناس في هذه البلدة خاصة للنساء من الموحدين الدروز والمشايخ المبجلين،وكان البعض يتفقون على الذهاب الى بيت أبو ناجي بعد أن يكونوا قد اتفقوا على عدد الذين سيشترون الذبيحة سخلة صغيرة على قدهم يتقاسمونها بعد ذبحها وسلخها وجرمها وكل يأخذ حصته لحما وعظما وكان أبو ناجي يقول لهم:اسمعوا يا جماعة ربما تزن هذه السخلة بعد ذبحها ثلاثين كيلوغرام وانتم لحد ألآن لا يتعدى عددكم ألعشرة وانا امكانياتي المادية لا تسمح لي أن أبيعكم بالدَين،لانني ما امصدَق وينتا ربنا يرزقني وأذبح لي تلحيمة لكي أسَدد الديون التي هي على رأسي،على ألاقل فليشارككم كمان خمسة مثلا وسأذبحها لكم فورا،ولم يتمكنوا من أن يشاركهم أكثر من العدد الذي كان فالحالة ضيَقة وما فيش مصاري مع الناس واللي معاه قرشين بفَضل يصرفهن على ألاكل والشرب للبيت وللاولاد دون أن يأكلوا أي نوع من الزفر كالدجاج أو اللحوم أو ألاسماك أو حتى الطيور ألاخرى أو العصافير وكانت عند دار أبو ناجي دجاجة عتقيَة ولم يرغبوا في التفريط بها لانها تبيض لهم البيض كل يوم،ومضت ألايام وتمَ الاتفاق مع أبو ناجي على زيادة عدد المشتركين في التلحيمة،وكان من بينهم أبو مهنا والذي لم يعرف هو أو أفراد عائلته اللحمة ولم تدخل على بيته منذ كذا أشهر،وألآن اقترب العيد ألكبير ويريد أن يدخل البهجة والسرور الى بيته والى قلوب ألاولاد والزوجة وألاسرة لانه في العيد الصغير عيد الميلاد المجيد لم يتمكن من أن يشتري لهم أكثر من كيلو ونصف ألكيلوغرام من أللحمة ومعلاق حاولت أم مهنا أن تشوي منديل الشحم والحلَيات مع عدد من قرط الكبدة أي القصبة ألسمرة أو ألسودة وهي مفيدة جدا وشرائح من القلب وألكلاوي في صبيحة أليوم ألاول لعيد الميلاد المجيد،فألاولاد دائما يقولون لهم :نحن نريد أن نشوي لحمة على ألفطور مثل ما بيعملوا جيراننا ألاسلام وأصدقائنا ،لكن أبو مهنا والدهم كان دائما يقول لهم:يا أولادي اسمعوا أنا لا أملك ألنقود ألآن،لكن ان حدث وطلب مني أحد الناس سواء من القرية أم من قرى أخرى أن أصنع له تابوتا أعدكم بأنني سأوفر لكم المال لشراء لحمة ألعيد.حزنت ألام جدا لهذا الكلام ولوضعهم ألاقتصادي ألسئ ،لان زوجها يريد أن يربط سرورهم ومصير شراء اللحمة والحلويات للعيد وكل ما يتطلب من حاجيات بصنع تابوت لميَت جديد فقالت له:اسمع ان مثل هذا ألقول يؤلمني ويؤلمني جدا أن ننتظر وفاة أحد ما من بلدتنا أو من غيرها من القرى المجاورة لنستطيع ادخال البهجة والسرورالى قلوب أولادنا ولاسرتنا،وكنت أفضل أن لا يموت أحدا لنأكل نحن أللحمة،ونتيجة لذلك وبعد جدال ومناقشة مع زوجته ذهب أبو مهنا عند أبو ناجي وطلب منه أن يسجل اسمه ويعتبره من ضمن ألذين يريدون ألمشاركة في شراء أللحمة من عنده ان هو أي أبو ناجي قرر أن يذبح ألسخلة التي سيقوم بذبحها عشية عيد الميلاد ألمجيد،لكن أبو ناجي معتاد على وصول المجموعة ومثل هؤلاء الى بيته وليس بيدهم ألمال وأحيانا تطول المدة ولا يستطيعون تسديد ماعليهم من ديَن من ثمن ألحليب أو اللبن فكيف سيسددون ثمن أللحمة؟قال أبو ناجي لابو مهنا :خير يا أبو مهنا بشوفك مستعجل ؟؟؟!!فقال له قررت أن أشارك في ثمن ألسخلة واشتري منها حصة مقبولة للاسرة بمناسبة ألعيد،فقال أبو ناجي: وشو مع ألمصاري؟؟ أجابه أبو مهنا :ربنا بيرزقها ومش رايح أطوَل عليك بحق أللحمة لهذا ألعيد يا أبو ناجي،فأجابه:يا أبو مهنا:انت بتعرف البير وغطاه..احنا عيلة كبيرة بيتقرط ألحصو،وألاوضاع مش كل ولا بدَ من ناحية ألمصاري،خلاصة ألحكي كلنا بدَنا نعيش .
قبل أبو ناجي مشاركة أبو مهنا ويبيعه من لحمة ألسخلة عندما يذبحها.عاد أبو مهنا ألى بيته فرحا آملا ان يحضر أحدهم ويخبره بضروروة صنع تابوت لاحد ألمتوفين،لكن لم يحدث،وحاولت زوجته أم مهنا أن تتحدث مع أهلها في هذ ألموضوع خاصة مع أمها لان أباها كان قد استشهد عندما كان يعمل في احدى القرى القريبة وأثناء عودته الى قريته زمن النكبة حصل اطلاق نار من قبل اليهود عليه وعاشت منذ ذلك ألزمن يتيمة ألاب،لكن أمها كانت لها ألام وألاب وكذلك ألاخوة كانوا سندا لها،وقررت ان تتحدث مع أمها وتخبرها انها تفضًل أن لا يموت أحدا على أن تنتظر أن يصنع زوجها تابوتا لاحدهم وبثمنه يشترون مستلزمات العيد والمتطلبات الأخرى اللازمة له ولفرحتهم من حلوى ولحمة وغير ذلك من متطلبات،وسألت أمها ان كان بإمكانها المساعدة في الموضوع؟فقالت لها:يا بنيتي الشغل مش عيب وهذا هو مصدر رزقه ومصدر دخلكم وليس من اليوم فانت عندما تزوجتيه كانت مهنة زوجك النجارة وكان يصنع توابيت لكل من هو بحاجة واليوم انت تتذكرين كم هذا العمل محزن؟صحيح أنه محزن لكنه عمل وان لم يصنع التوابيت هو فان كل من سيكون بحاجة الى تابوت سيتوجه الى نجار آخر من بلدة أخرى اليس كذلك؟وحاولت أمها ان تقنعها لترضى بنصيبها ،لكن أم مهنا قالت لامها :أعطيني ثمن اللحمة وانا ساتدبر بباقي الحاجيات شو رأيك؟فقالت لها اسمعي يا ابنتي الحبيبة سأسأل اخوتك وان شاء الله بنحضرلك النقود.ذهبت ابنتها بعد تناول الطعام معها شارحة لها الأوضاع القاسية التي يعيشها زوجها والعائلة والأولاد وانه كلما حضر شخص وطلب من زوجها أن يعَد تابوتا فان الدنيا عندها تقوم ولا تقعد، وفي المساء عرضت الام حاجة ابنتها امام أولادها الذين قالوا لها:ستفرَح اختنا أولادها بيوم العيد دون ان يكونوا بحاجة الى المال من صنع التوابيت،وقام كل منهم ووضع في يد امه ما استطاع أن يستغني عنه،شكرتهم والدتهم لحسن عملهم هذا مشيرة بانها في الصباح ستذهب الى بيت ابنتها لتعطيها ما تجمَع من أموال لاختهم أم مهنا وهذا ما كان،عندها انفرجت أساريرها سرَت كثيرا لقدوم أمها اليهم،سلَم الأولاد على جدتهم وألَحت على أمها البقاء عندهم ليتناولوا جميعهم الطعام فهي كانت لتوها قد انتهت من الخبيز على الوقادة وعمل المناقيش التي يشتهيها كل من لا يتذوقها مع زيت الزيتون والتي رائحته بتشَق ألارض والى جانب المناقيش عددا من حبات البندورة كانت قد قطفتهم من بيت البندورة الكبير في الحاكورة الذي زرعته في أرض الدار وقسَمت شرائح البندورة ووجدت خيارات قسمتها ووضعت الطعام بعد أن زينته على سدر من ألالمينيوم وطلبت من احد الأولاد ان يضع كرسيا في باحة ارض الديار وجلسوا حول المائدة وتناولوا الطعام وقبل ان تباشر أمها بتناول الطعام ابدَت اعجابها مما عملته ابنتها من المناقيش التي تجلب النظر فاخبرت أمها بأن طعامهم اليوم سيكون فقط مناقيش وخيار وبندوره مع بعض الزيتون الأسود المكبوس مع الفيجن او الأخضر ان أراد الأولاد ذلك!
انا اليوم خبزت مئة رغيف وعشرين منقوشة وآمل ان هذه الخبزَة تكفي لنا لاسبوع من الزمن ،مع انه أحيانا هذه الكمية تكفينا لخمسة او لستة أيام لانه ركنَا واعتمادنا على الخبز يا امي فانت تعرفين أوضاعنا،واعطتها ألام النقود التي كانت قد جمعتها من أولادها وعادت ادراجها وفرحت الابنة كثيرا لان مشكلة لحمة العيد وجدت حلا لها والنقود ليست من ثمن تابوت سيبيعه زوجها أبو مهنا وان ثمن لحمة العيد والمتطلبات الأخرى لن يكون من ثمن تابوت لاي كان،وفضلتَ الزوجة ان يغيَر أبو مهنا مهنته ويهتم فقط في صنع الأبواب أي ان يتحول الى نجار افرنجي كما يقولون وليس في صنع التوابيت، لكنه قال لها: بأن شغل اشهر في ما تقولينه لا يضاهي ثمن تابوت واحد،وبينما هما يتحدثان سمعا طرقا على الباب وشخصا ينادي عليه،وعندما خرج قال له انه بحاجة الى أن يعَد له ثلاثة توابيت لاشخاص توفوا في حادث طرق مروع في المدينة ودفنهم سيكون غدا وغادر المكان، فرح أبو مهنا بالرزقة و باشر في اعدادهم واتوا في الغد واستلموهم واعطوه ثمنهم نقدا وسرَ جدا واسرع الى أبو ناجي ليخبره بانه استطاع توفير ثمن اللحمة ويخبر زوجته بعد ان يصل الى البيت ويقول لهم فرجت ولو انها على احزان الغير وألآخرين ونادى على زوجته ليتأكد اين تجلس واخبرها بما أراد لكنها رفضت الفكرة وقالت له بانها سبقته وقامت بتسديد ثمن لحمة العيد،لكنه يستطيع ان يشتري بهذا المبلغ أي شيء للبيت مما حصَله من ثمن التوابيت فهي قررت أن يفرحوا ألاولاد ليس على حساب أحزان ألآخرين، وقال لها سأفكر ،
على الرغم من أن مهنة زوجها النحارة وهي مهنة محترمة،لكنها طلبت منه أن يغيرها في عدم صنع التوابيت لآي مهما كان،لان ذلك يحزنها جدا،لكنه أضاف قائلا :سأفكر في الموضوع الهام جدا في نظرك وكذلك في نظري..