رمزية القدّيس جوارجيوس في رواية «سِهراب» بقلم : الدكتور منير توما كفرياسيف
إنَّ قصة القديس جوارجيوس والتنين كما تظهر في الصورة أو اللوحة المألوفة ، ترمز الى الانتصار على الشرّ ، وهذا من مواضيع الفن الشائعة على مدى عصورٍ عديدة . والكاتبة الدكتورة منار غنطوس في روايتها «سِهراب» تُجَسِّد هذه الصفة الخيرة المعطاءة لشخص القديس جوارجيوس بالروح المسيحية الحقيقية في الدفاع عن الحق والعدل ونُصرة المظلومين ومساعدة الآخرين والذوذ عن المستضعفين كما شهِدنا في سرد ليلى بطلة القصة في الرواية التي نالت قسطًا وافرًا مِن إيمانها بيسوع المسيح وصليبه وبرعاية القديس جوارجيوس لها واستحواذ فكرها وروحها عليهِ من خلال قصة جدّها ابراهيم وروايته لها عن مار جوارجيوس ومسيرة حياتهِ وقصة والديهِ منذ أن رأى النور في هذهِ الحياة الى اكتمال رسالته مرورًا بمعاناتهِ من بطش وظلم واضطهاد الرومان وامبراطورهم الوثني بسبب إيمان جوارجيوس بيسوع المسيح مخالفًا بذلك عقيدة الامبراطور الوثنية آنذاك . وقد لاقى جوارجيوس أعتى أنواع العذاب رغم ما قدمه من بطولات وانتصارات عسكرية في خدمة الامبراطور الوثني وامبراطوريته .
إنَّ والدي جوارجيوس وهما أنستاسيوس الكبادوكي وثيوبستي الفلسطينية اللداوية ، يمثلان تمازجًا حضاريًا لوالدٍ من بلدٍ ناطق باليونانية هو كبادوكيا في وسط تركيا ، وأمٍّ من بلدٍ آخر هو فلسطين من اللد كما تخبرنا القصة في الرواية ، وبالتالي فإنَّ تراث جوارجيوس الموضّح في الرواية هو عن التعددية الثقافية (multicultural) كما نستنتج في هذا العالم الكلاسيكي .
ومن حيث أنه لعدة قرون كانت الامبراطورية الرومانية تعبُد الهتها الوثنية المحلية ، فإنَّ جوارجيوس قد عمل من خلال حياتهِ العائلية الشخصية وتوارثه من والدهِ الشجاعة الفائقة والفروسية اللامعة ومحبته للمسيح وايمانه الخالص به ، وثقته النابعة من كينونتهِ كفارسٍ محارب مغوار يقود الجيش الروماني في معاركهٍ ضد الفرس ، فإنّه عمل على نشر الإيمان المسيحي في الامبراطورية الرومانية الوثنية ، فكانت قصة الجدّ ابراهيم عنه لليلى مُحَفِّزًا لها على استلهام الشجاعة الإيمانية المسيحية بحيث يشكِّل جوارجيوس مثالًا ونموذجًا يحميها في حياتها من الشرور كما ورد في الرواية ، فكان جوارجيوس الحارس الرّباني لها والمؤتمن على سلامتها بفعل صليب الرب يسوع المسيح . ويُعتَبَر جوارجيوس في تراثنا وخيالنا الفارس الشهيد ، الذي قتل التنين ، ولكنَّ القصة في الرواية تحكي لنا عن الجانب التاريخي المعتمد عن حياة جوارجيوس وذلك بتمثيل مختلف كليًا عن قصة التنين الأسطورية التي يشكِّل فيها التنين رمزًا للشر والوثنية حيث يظهر ذلك كثيرًا في قصص القديسين في القرون الوسطى ، وبشكلٍ مميّزٍ غالبٍ قصة القديس جوارجيوس مع التنين كرمز لدفاعهِ عن إِيمانهِ ضد قوى الشرّ المتمثلة بآلة البطش للامبراطور الروماني الوثني ذيوكلتيانوس الذي رفض جوارجيوس بكلِّ إباءٍ وشموخ إيماني الخنوع له والتراجع عن عقيدتهِ المسيحية ، مفضلًا أنْ يُستشهَد ، مع أنَّ الرب يسوع المسيح كان الى جانب جوارجيوس دائمًا يشفيهِ من جروحهِ ، ولكن استشهاده هو كبذرة القمح التي لا بُدَّ أن تموت في الأرض كي تعطي ثمرًا ومحصولًا وفرًا كما ورد في قول السيد المسيح في الانجيل ، وكما أخبر الجد ابراهيم حفيدته ليلى بذلك المثل ، وذلك كنايةً في هذا السياق عن تضحيات جوارجيوس في سبيل إيمانهِ ، فتكون ليلى الفتاة التي استنارت بإيمانها بالقدرة الربانية ليسوع المسيح بالايحاء الذاتي لها ، وبالايمان العميق بنموذجية القديس جوارجيوس وقصته ، ليس على الصعيد الأسطوري الرمزي فحسب بالنسبة لليلى ، بل على الصعيد الذاتي الواقعي الداخلي النفسي مما منحها القوة والثبات على اكتشاف الحقائق وتحدّي الظروف والضيقات الطارئة التي تعرّضت لها في حياتها كما ورد في تفاصيل القصة الروائية ، وبهذا يتبادر إلى أذهاننا الحقيقة في أنّه في القرن الخامس عشر الميلادي والى يومنا هذا ، كان القديس جوارجيوس بين «الأربعة عشر قديسًا المعينين بقداستهم» الذين يقوم المؤمنون بالتوجه اليهم بالصلاة ، وفي مقدمتهم والأشهر فيهم القديس جوارجيوس طلبًا للشفاعة والإسعاف والمعونة والمساعدة في الضيقات ، ليس عند المسيحيين فقط ، بل عند الأخوة المسلمين والموحدين الدروز أيضًا معتبرين إياه المُعين على الشدائد بكونهِ رمزًا متعدِّد الانتماءات بفضائلهِ وبفعل شجاعتهِ ونقائهِ وحبهِ للعدل وللإنسان ، وهذا ما أشارت إليهِ الكاتبة بإيرادها لتفاصيل اللقاء بين جوارجيوس كقائد للجيش الروماني ، والقائد الفارسي «شهدان» الخصم أو العدو الذي أُعجِب بدماثة أخلاق جوارجيوس وايمانه بالرب يسوع المسيح ، مما حدا بالقائد الفارسي شهدان أن يدعوه بإسم «سِهراب» ، وباللغة الفارسية يعني النقي القلب ، العزيز في روحهِ ومعاملته الطيّبة للناس ، مُقَدِّمًا له خنجرًا مرصّعًا بالياقوت عربون التقدير والاحترام له كرجل محبّ للسلام .
إنّ القديس جوارجيوس الذي يُطلق عليهِ عند المسلمين والموحدين الدروز اسم «الخضر» يُشغَف بهِ المؤمنون بقداستهِ سائلين الربّ أن يحميهم حمايةً وبركةً حين يدعون أو يصلّون بإسمهِ لأنه عن طريقهِ يستجيب الربّ لهم بدوام حياة زاهرة خصبة بخضرتها مجازيًا ، فالخُضرة رمز الحياة النضرة لاسيما وأنّ اسم جوارجيوس يعني حارث أو فلّاح ومزارع التربة والأرض ليجعلها ويبقيها خضراء خصبة ملأى بالحياة ، ولهذا السبب فإنَّ القديس جوارجيوس هو قديس الزراعة وشفيع المزارعين والرعاة والحامي لها .
وختامًا ، فإنّ الرواية تخبرنا أيضًا بحادثة الصليب الخشبي الذي ورثه جوارجيوس عن أبيه أنستاسيوس ، والذي كان ملطخًا بدماء الجندي أنطونيوس شهيد إيمانهِ بمفهوم فداء يسوع المتجسِّد ، ذلك الصليب الذي وضعه جوارجيوس في عنقهِ رمزًا لإيمانهِ العميق بمعلمهِ الأعظم يسوع حيث أنَّ هذا الصليب يمثل الشجاعة والإقدام التي منحها الرب الى جوارجيوس والمؤمنين الشهداء عند موتهم . وهنا يُشار الى أنّ الرمح أو الحربة الذي يظهر في صور القديس جوارجيوس يعني ويرمز الى قوة وقدرة الله ، وليس قوة الإنسان ، فقوة الرب هي التي تتغلب وتقهر الشرّ . ومن الملاحظ أنّ في أيقونات القديس جوارجيوس هناك صليب صغير في قمة الحربة أو الرمح . وهذه الأيقونة تؤكّد أنّهُ ليس بسلاح الحرب يُقْهَر الشرّ ، ولكن بقوة الصليب مانح الحياة تُفتح الطريق للقيامة والبعث من جديد (resurrection) . ومن هنا فإنَّ ليلى في نهاية الرواية تصل الى قناعتها وثقتها بصدق رؤياها ورؤيتها لقداسة وحماية وارشاد القديس جوارجيوس نحو الشجاعة ، المحبة وسلام النفس ، والتضحية في سبيل المبدأ الايماني الانساني القويم . وهكذا تكون الكاتبة الدكتورة منار غنطوس قد كتبت روايةً محكمة الحبكة والأسلوب بمهارة وإتقانٍ فنّي ، وأجادت في عرض الفكرة بشكل قدّمت فيهِ قصة داخل قصة
(a story within a story) ترتبط كل منهما الواحدة بالأخرى بتكاملٍ واضح ، وتعكس الرابط الروحي بين البطلة المباشرة للرواية ليلى ، والبطل المحوري القديس جوارجيوس حيث جاءت الرواية شائقة ، مثيرة للاهتمام ، ذات خلفية تاريخية واقعية مشوبة بنفخات ولمسات من الخيال والأسطورة الى حدٍ ما ، مما أضفى جوًا من عنصري التشويق والتعاطف مع معظم الأحداث . فللكاتبة الدكتورة منار ، أجمل التهاني بإصدارها هذا الكتاب ، مع أطيب التمنيات بالتوفيق والحياة السعيدة الهانئة .
آذار 2019