عندما سألني قبل ايام قليلة صديقي ابو جبور ممازحا: "هل ستُعيِّد مع الروم ام مع الكاثوليك؟"، انفجرتُ ضاحكا ليس لان السؤال مضحك ولا لاني استخفّ لا سمح الله بالسائل الكريم، بل لاني عدتُ فتذكرتُ مرة اخرى نكتةً كنتُ قد رويتُها سابقا، اعني نكتة الاستاذ جريس.
انهى الاستاذ جريس دراسته في دار المعلمين في حيفا وعُيّن معلما في احدى مدارس المثلث. لاحظ مدير المدرسة ان هذا المعلم المسيحي (كما يدل اسمه) ناجح في عمله غير انه كثير الغياب. قام المدير باستدعاء المعلم الى محادثة خاصة تضمنت الحوارَ التالي:
المدير: "يا استاذ انت معلم مليح ، بس انت بتتغيب كثير عن المدرسة".
المعلم: "أعوذ بالله، أأنا كثير الغياب؟! أنا لا اتغيب اطلاقا، لكني اعطّل بمناسبة الاعياد المسيحية لا غير! "
المدير:"لكنك عطّلتَ خلال ايام الدوام، وفي ذات السنة الدراسية، مرتين على عيد الصعود ومرتين عل عيد مار جريس ومرتين على عيد الصليب ومرتين على عيد البشارة الخ..!!
المعلم: "هذا صحيح. مرة على عيد الروم ومرة على عيد الكاثوليك"
المدير(باندهاش شديد): "ايش انت يا استاذ جريس، روم ام كاثوليك"
المعلم: "انا روم كاثوليك".
ضحك ابوجبور حتى كاد يستلقي على ظهره، قائلا لي: "فهمتُك. انت كروميّ كاثوليكي ستعيّد اذن مرتين: مرة مع الكاثوليك ومرة مع الروم".
فقلت له بمنتهى الجدّيّة: " ولماذا اعيّدُ مرتين في السنة الواحدة؟ فهل ولِد السيد المسيح حسب العقيدة المسيحية مرتين؟ وهل صُلب مرتين؟ وهل مات مرتين؟ وهل قام من بين الاموات مرتين؟!" وهل المسلمون مثلا يعيّدون عيدهم الكبير اي عيد الاضحى المبارك مرتين: مرة مع السُنّة واخرى مع الشيعة ؟ وهل اليهود يعيدون عيد فصحهم مرتين في السنة الواحدة: مرة مع الاشكناز ومرة ثانية مع السفارديم رغم اختلاف طقوسهم الدينية؟".
ولمّا كان السيد المسيح، كما يعتقد المسيحيون انفسهم، قد ولِدَ مرة واحدة وصُلب ومات وقام مرة واحدة، فانا ساعيّد هذه السنة عيد فصح واحدًا وسيكون هذا مع ابناء الكنيسة العربية الارثوذكسية في حيفا، وذلك:
(اولا) لا لانه تربطني روابط صداقة متينة اعتزُّ بها مع قطاعات واسعة من ابناء هذه الكنيسة، على امتداد ما يربو على نصف قرن من الزمن، ولا لاني احترم واقدّر عطاءهم للمجتمع العربي بكافة شرائحه حيفاويا وقطريا من خلال الكلية العربية الارثوذكسية العامرة والنادي الثقافي الذي اضحى دفيئة مميزة للحراك التربوي الثقافي، ولا لاني اغبطهم على العرس الديمقراطي الذي عاشوه ومارسوه في الاسابيع الاخيرة لانتخاب هيئة تمثيلية جديدة، دون ان اتجاهل تحفظاتٍ قد يبديها ايٌّ منا على مسلكٍ ما قد يقدم عليه احدُ الاطراف المتنافسة في معركةٍ انتخابيةٍ حاميةِ الوطيس لكنّها تتقزم إزاء حكمةِ شعار: "الانتخابات يوم وعلاقة الناس مع بعضها دوم".
(ثانيا) ولا لاني اتنكّر لكنيستي الرومية الكاثوليكية التي فيها ولِدتُ وتعمدت وتعلمت وتكللت ومن خلالها دعوتُ مرارا وتكرارا، شفويا وخطيا، وما زلت ادعو الى الغاء كل قرار من شانه ان يزيد تشرذمنا كعربٍ مسيحيين، حتى في قضية ينبغي ان تكون في غاية البساطة كتوحيد موعد الاحتفال بالاعياد، خصوصا وان قضية تعيين موعد الاحتفال بالاعياد لا تمتُّ بصِلةٍ الى جوهر الايمان والعقيدة. كما دعوتُ وما زلت ادعو الرئاسة الكنسية العليا في كنيسة الروم الكاثوليك في الجليل، ان تدرك الاخطار المترتبة على تجاهل العلمانيين وما يترتب على ذلك من تبعات واسقاطات تخلق غربةً بين الرئاسة والمؤمنين الذين هم الكنيسة الحقيقية أعني كنيسة البشر لا الحجر.
نعم ساعيّد هذه السنة عيديّ الشعانين والفصح المجيد مع ابناء الكنيسة الاثوذكسية في حيفا لا بسبب كل ما ذكرتُه اعلاه، مع انه يشكّل في رأيي قيمةً اضافية راقية لقراري، إنما اعيّدُ احتراما وتقديرا للموقف المشرّف الراقي النبيل المحبّ المتسامح الملتزم الذي اتخذه ابناء الكنيسة الارثوذكسية في حيفا، من خلال رئاستيها المحليتين العربيتين اعني خوري الرعية والمجلس الملي الارثوذكسي حيث كانوا قد اعلنوا انهم سيعيّدون عيدي الميلاد وراس السنة حسب التقويم الغربي سواءٌ عيّد الغربيون عيد الفصح حسب التوقيت الشرقي ام لم يعيّدوا. ولقد التزم الاخوة الارثوذكس في حيفا بقرارهم هذا وما زالوا ملتزمين به حتى بعد تراجع الغربيين عن الاتفاق وعودتهم الى الفرقة والانقسام وتكرار المهزلة من جديد...وفي هذا السياق لا بد من التنويه باني لم ادعُ ولا اريد ان ادعو احدا من المسيحيين في حيفا الذين يعيّدون حسب التقويم الغربي، ان ينضمَّ اليّ فانا لا ابحث عن عزوة ولا اشكل كتلة ولا اسعى لاقناع احد بموقفي ولا يضيرني ابدا ان اكون لوحدي كما انني لا اسعى الى اقناع او الى اسداء النصائح لمن هو اوعى من ان يكونَ بحاجة لنصائحي، ولكني اقول لمن لديه مثل قناعتي : لماذا لا تمارس حريتك في اتخاذ قرارٍ انتَ تؤمنُ ايمانا صادقا بصحته؟ لماذا تستجدي حريتَك ممن يحاول ان يصادرها منك؟ ومن يستطيع اصلا مصادرة حريتك؟ ولماذا لا نستطيع ان نكون خيرَ خلفٍ لخير سلف. ان اسلافنا قد استطاعوا بوعيهم وباصرارهم ان يهدموا جدران الفصل بين زواج ابناء وبنات الكنائس المسيحية المختلفة، وان يُلزموا تلك القيادات الكنسية العليا التي اقامت تلك الجدران البغيضة، ان تتناغم مع ارادة العرسان وذويهم، فتركَ السلفُ لنا بذلك إرثا يُحترم ونموذجا يُقتدى به اليوم، لتقويض جدران الفصل المفتعل بين مواعيد احتفالنا بالاعياد.
ومن له اذنان للسماع فليسمع وكل عام وانتم بالف الف خير