مع الدكتور محمد حبيب الله في كتابهِ «إنسان إن شاء الله»
بقلم : الدكتور منير توما كفرياسف
وصلني مؤخرًا من الدكتور محمد حبيب الله مشكورًا نسخة من كتابهِ الجديد الذي يحمل عنوان «إنسان إن شاء الله» حيث يذكّرنا هذا العنوان ما كان يَعَرِّف بهِ نفسه اجتماعيًا ومهنيًا رجل التربية الكبير طيّب الذكر المرحوم الأستاذ خليل السكاكيني ، وهذا ما يشير إليه أيضًا الكاتب في مقالٍ له في هذا الكتاب عن خليل السكاكيني . ولا غرو في ذلك ، فإنّ الدكتور محمد حبيب الله أطال الله عمره يسير على خطى السكاكيني بنزعته الانسانية اللافته وعقيدته التربوية المتميزة ومحبته للغة العربية ونظرته الشاملة الرؤيوية بشأن الوضع التربوي التعليمي في مجتمعنا العربي بشكل خاص .
إنّ ما ورد في كتاب الدكتور محمد حبيب الله لخير دليلٍ على الأخلاقيات والسمات الرفيعة والسامية التي يتحلّى بها الدكتور حبيب الله ، والتي تكشف عن دماثة أخلاق أصيلة ، وخصال إنسانية نبيلة تدين بمحبة الآخر وقبوله دون انحياز أو غبن لأحد . فالدكتور محمد حبيب الله يدأب في مقالات هذا الكتاب على الإتيان بأفكارٍ تشهد على علاقاتهِ الاجتماعية والمهنية الفريدة وتواصلهِ مع شخصياتٍ يجمعه بها روح زمالة ومودة وعمل ينبع منها أحداث يتخذ القارئ منها العبرة والحكمة والإعجاب بخلفياتها وتفاصيلها مع ما تتضمنه أحيانًا من طرافة الحدث أو الموقف ، علمًا بأنّ الدكتور حبيب الله ينتهج في مقالات كتابهِ هذا أسلوبًا جديًّا رصينًا شكلاً ومضمونًا يعكس شخصيته الوقورة التي تكسبه تقدير واحترام الآخرين ، علاوةً على كونهِ أكاديميًا عريقًا ترك بصماتٍ ظاهرةٍ في مجال التربية وتعليم اللغة العربية من خلال ممارستهِ كمحاضر في المعاهد العليا ، ومن خلال كتبه المتعدّدة في هذا الميدان .
يستذكر الكاتب في مقالات كتابهِ هذا الكثير من علاقاتهِ الأدبية وذكرياته مع شخصيات أدبية وتربوية من شعراء ومدرسين وأدباء وغيرهم من رجالات المجتمع على اختلاف شرائحهم
وأطيافهم ، فها هو يحدثنا عن المربي والشاعر المرحوم شكيب جهشان أستاذ اللغة العربية المشهور والمعروف بكفاءته في تعليمها بالثانويات ـ بالاضافة الى شاعريته ومواقفه في تحدياتهِ المتعلقة بتعليم اللغة والأدب العربي في الاتجاهات الصحيحة التي تشعر الطالب بمحبتهِ للغة ولانتمائهِ لشعبهِ .
ولا ينسى الدكتور محمد حبيب الله أن يفرد مقالاً عن المرحوم الشاعر جمال قعوار وصداقته الوثيقة بهِ حيث يصفه بأنّه كان انسانًا ومعلمًا كبيرًا ، وأحد أفراد شلّة اصدقائه الذين كانوا يجتمعون بشكل دوري في جلسات يتم التباحث فيها في مواضيع حياتية متنوعة يتخللها المزاح والجد ، لاسيما أنّه يتطرق الى ذكرياتهِ مع جمال بزمالتهِ له كمحاضر ومعلم في دار المعلمين في حيفا ، وما حدث معه هناك من طرائف أدبية شعرية .
ويخصّص الدكتور محمد حبيب الله مقالاً عن الفكر التربوي عند خليل السكاكيني الذي يدعو العرب أن يفاخروا بهِ كما يفاخر العالم الغربي بمربين حديثين امثال جون ديوي وماريا مونتسيوري؛ ويتكلم الكاتب عن فلسفة السكاكيني التربوية موضّحًا أهداف التربية عند السكاكيني.
وفي مقالة لاحقة في الكتاب يوجِّه الكاتب رسالة الى الخريجين من الثانويات والكليات والجامعات، يسوق فيها بعض النصائح التي نصح بها المربي العربي الفلسطيني خليل السكاكيني طلابه الخريجين قبل أكثر من سبعين عامًا ، ويرى فيها الكاتب زخمًا تربويًا يصح أن يقال في كل زمان ومكان في مدرسة الحياة .
وفي مقال تحت عنوان «الملاك الحارس» يكرّس الكاتب عدة صفحات من الكتاب في ذكرى المرحوم الدكتور سامي مرعي الذي يعرّفه الكاتب بكونهِ علمًا من اعلام الفكر التربوي الفلسطيني الحديث ، ويخبرنا الكاتب بأنّه قد اختار لهذا المقال العنوان «الملاك الحارس» لأنّ الدكتور سامي كان كما يصفه أخًا وصديقًا وفنيًّا وحارسًا له ، وصاحب فضل كبير في شقّهِ طريق العلم له حتى الدكتوراة في أميركا ، فكان بالنسبة له على طول طريقه ملاكًا حارسًا يأخذ بيدهِ في كل المواقف من سيرتهِ الحياتية المهنية .
ولا يفوت الدكتور محمد حبيب الله في أحد مقالات الكتاب الى التحدث عن مكانة الكتاب في حياتنا ، ويقول : «إنَّ ما حدث وما يحدث اليوم من ابتعاد الإنسان بشكل عام والمتعلم بشكل خاص عن الكتاب الورقي التعليمي يجعله عاجزًا عن أداء وظائف حياتية كثيرة ، وحرمته متعةً روحية تكمن في اقتناء الكتاب واستعماله وفي مطالعة كتب قصصية ودواوين شعرية تجعل لحياتهِ معنىً» . وفي هذا القول شهادة حقيقية دامغة عن أهمية الكتاب في بلورة ثقافة الإنسان الذي أهمل قراءة الكتب في عالمنا العربي بشكل مثير للأسف لأنّ ذلك يجعل من الإنسان البعيد عن الكتب شخصًا متعالمًا فقط وليس متعلمًا يسعى الى الثقافة . وفي إشارة الدكتور محمد حبيب الله الى هذه الظاهرة السلبية في عدم القراءة ، إنّما تؤكِّد الحقيقة الضائعة عن فكر الانسان العربي المعاصر بأنَّ الكتب هي ثروة العالم المخزونة والإرث المناسب للأجيال والأمم ؛ وقد صدق الشاعر والأديب اللبناني الكبير ابراهيم اليازجي حينما قال في هذا الصدد :
وأفضلُ ما اشتغلتُ بهِ كتابٌ
جليلٌ نفعُهُ حلوُ المذاقِ
ومن الأمور الأدبية التي يوردها الكاتب بعض الأمثال المشهورة مع ذكر القصة أو الحديث الذي يكمن وراءها ، وفي ذلك يجد كثير من القراء متعةً في معانيها وحكمتها مما يعود عليهم بالفائدة المعرفية في حالات متنوعة .
وعن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يكتب الدكتور حبيب الله مقالاً تحت عنوان «الرجل الذي أبصر بعيني زوجتهِ» ، مشيرًا الى حقيقة التقاء طه حسين أثناء دراسته للدكتوراة في فرنسا بطالبة سويسرية إسمها (سوزان) ، وتطوُّر علاقة الصداقة بينهما ليتزوجها فيما بعد ، ولترافقه في حياتهِ العلمية والتحصيلية في فرنسا ولتكون له رفيقة درب طالبًا تم زوجًا . فكانت المرأة التي ابصر بعينها . وفي وصف الكاتب لهذهِ الحالة نادرة الحدوث ما يؤكِّد العلاقة الانسانية الحميمة المبنية والقائمة على أسس الحب الصادق ، والوئام والاخلاص والتفاني بين شريكي حياة أحدهما يرى ببصرهِ وآخر يرى ببصيرتهِ ليتم التكامل الفكري والثقافي والاجتماعي والإنساني وليأتِ بخير الثمار في عالم الأدب والمعرفة .
وتتعدّد مواضيع مقالات الكتاب التي تفصح عن روحٍ ونفسِ متسامية وفكر واسع الأفق عند الدكتور حبيب الله ، ومنها مقالته التي تحمل عنوان «انتم ملح الأرض» بمناسبة عيد الميلاد المجيد ورأس السنة الميلادية ، وفيها تبرز لديه روح المحبة والتسامح التي يتبناها ويدعو اليها بين الناس على اختلاف عقائدهم حيث يؤكِّد ضرورة التغلّب على الأفكار المسبقة عند كل طرف من اطراف الديانات الثلاث التي تسود هذه البلاد ، وهو يقتبس ما قيل بأنَّ الدين لله والوطن للجميع .
ويخوض الكاتب في مقالاتهِ موضوعات مختلفة ومتنوعة ويستفيض في ابداء الرأي حيال أمور اجتماعية وتربوية متعدّدة المناحي ومنها كيفية التواصل مع الغير ، وثقافة الإصغاء وثقافة التواضع وغيرها من الثقافات كثقافة الصحة ، والسلام ، والسؤال ، والنظافة ، وثقافة القطيع ، وغير ذلك ممّا يثير اهتمام الكاتب في الحياة .
وهكذا يكون الدكتور محمد حبيب الله قد قدّم كتابًا في مستوى حضاري متقدّم صادر عن صاحب شخصيةٍ مستنيرة ، فكرًا ، وعملاً ، وعلمًا ، وخلقًا ، فلّه منا أصدق التحيات وأطيب التمنيات بموفور الصحة والعمر المديد ، وبدوام التوفيق والعطاء .